إن تخندق الكثيرين في مواقفهم السياسية من موضوع الحرب في أوكرانيا ما زال يستند بشكل عام الى ولاءات وشكوك وعداوات تقليدية سواء أكان ذلك للشرق أو للغرب. القليلون هم من استطاعوا الخروج من ذلك القمقم والولوج في الأسباب والعوامل الخفية وراء موقف روسيا وحلفائها، أو أمريكا وحلفائها من الحرب في أوكرانيا.
الجهر بالعداء أو بالتأييد لأسباب تقليدية لن يشكل قيمة مضافة كونه سيكون في نتائجه واستخلاصاته بعيدًا عن واقع الأمور ومجرياتها والنتائج المترتبة عليها.
ان ما يجري هو في حقيقته مرحلة انتقالية بين ما هو قائم في العالم من جهة وما سيكون عليه الوضع في المستقبل من جهة أخرى، مما يجعل أدوات الصراع المستعملة تتراوح بالتالي بين الأسلحة التقليدية، والأسلحة المستقبلية التي تشمل الحصار الاقتصادي والمالي بالإضافة الى استعمال أو حجب التكنولوجيا الرقمية العالية جدًا وتطبيقاتها المختلفة، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على اختراق الحدود وعلى توجيه الرأي العام خصوصًا بين أوساط الشباب.
إن متابعة الاحداث المرتبطة بالحرب في أوكرانيا وتطورها تشير الى مجموعة من المؤشرات والحقائق التي سوف تؤثر على مجرى الحرب من جهة وعلى نتائجها من جهة أخرى. وهذه المؤشرات والحقائق هي: –
أولًا: واقع الأمور يشير إلى أن الاتحاد الروسي لم يقع في الفخ الأمريكي عند قراره التدخل العسكري في أوكرانيا كما يعتقد البعض. إن عدم تجاوب أمريكا والغرب مع مطالب روسيا الأمنية المتكررة قد أعطى روسيا الوقت الكافي لدراسة الخيارات البديلة ومنها الخيار العسكري ومساره ونتائجه وتبعاته. وفي هذا السياق، من الجدير الانتباه الى أن الرئيس الروسي بوتين ومؤسسات الحكم الروسية لا بد أن تملك من الحصافة السياسية ما يؤهلها لتوقع معظم الإجراءات الاقتصادية والمالية والسياسات التي اتخذتها الولايات المتحدة والغرب ضد الاتحاد الروسي وحلفائه، كون الهدف الحقيقي بالنسبة لأمريكا لم يكن أوكرانيا في أي وقت من الأوقات، بل كان الاتحاد الروسي الذي كان واعيًا للمخطط الأمريكي الحقيقي.
ثانيًا: أمريكا لا تهدف الى وقف الحرب في أوكرانيا أو انقاذ أوكرانيا والأوكرانيين بقدر ما تهدف الى هزيمة الاتحاد الروسي واستنزافه وتدمير اقتصاده حتى لو أدى ذلك الى تدمير أوكرانيا وانهيار أوروبا الغربية واقتصاداتها وتفكك الاتحاد الأوروبي. فأمريكا باختصار تسعى الى تدمير الاقتصاد الروسي كوسيلة ومدخل لتدمير روسيا ومنع عودتها كقوة عظمى تنافس أمريكا في نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
ثالثًا: تقود أمريكا الآن حربًا اقتصادية ضد روسيا تحت عنوان عقوبات اقتصادية. العقوبات والمقاطعة الاقتصادية الشرسة لروسيا من قبل أمريكا والغرب هي بالنتيجة سلاح ذو حدين، وأوروبا سوف تدفع الثمن الأكبر في نهاية المطاف. فالاتحاد الروسي هو أكبر دولة في العالم في مساحتها وهو أغنى دولة في العالم في الثروات الطبيعية.
الاتحاد الروسي هو الشريك الاقتصادي الطبيعي لدول أوروبا الغربية خصوصًا في حقل الغاز والنفط والمعادن حيث يزود المانيا مثلًا بالغاز الطبيعي بما يزيد عن 40% من حاجتها وهنغاريا 100% من حاجتها وكذا العديد من الدول الأوروبية، بالإضافة الى معادن مثل النكل حيث تمتلك روسيا 30% من احتياطي العالم وقد تضاعف سعر هذا المعدن في السوق العالمي بعد العقوبات بمقدار أربعة أضعاف خلال يومين، وكذلك معدن البلاديوم حيث تنتج روسيا سنويًا 91 طن وهي أكبر منتج في العالم من هذه المادة الاستراتيجية المستعملة في عدة صناعات منها صناعة الرقائق الإلكترونية. وتمتلك روسيا كذلك 20% من مخزون العالم من مادة الكوبالت و40% من البلاتين و12% من الألمونيوم. ويوجد في سيبيريا 20% من مخزون الذهب والفضة في العالم، و35% من الحديد الخام. وتنتج روسيا ثلث الغاز الطبيعي في العالم وتملك 6% من مخزون العالم من النفط (الثانية بعد السعودية).
رابعًا: تبرهن أمريكا مجددًا ان سياساتها تجاه الآخرين تفتقر الى أي قاعدة حقيقية أو أخلاقية. فهي تخترع الأعداء وهي التي تُجَرِمَهُم حينًا وتُبرءَهُم حينا آخر طبقًا لمصالحها فقط. فمثلًا تسعى الولايات المتحدة الآن إلى استقطاب تعاون كلًا من فنزويلا وإيران من خلال التلويح برفع العقوبات وإلغاء قيود الحصار الاقتصادي على كلا الدولتين مقابل قيامهم بضخ المزيد من النفط في أسواق العالم الغربي للتخفيف من الضغوط الناجمة عن منع الامدادات الروسية من النفط والغاز الطبيعي نتيجة لفرض أمريكا والغرب حصارًا على إمدادات روسيا من الطاقة (الغاز الطبيعي + النفط). أمريكا لا تمانع برفع العقوبات عن كلا الدولتين كونهما لا تشكلان في الواقع أي خطر حقيقي على دور أمريكا وموقعها في النظام الدولي السائد.
الهدف من عرض أمريكا فك الحظر عن فنزويلا وإيران هو من أجل العمل على تخفيف أثر منع الاتحاد الروسي من تزويد أوروبا وأمريكا وحلفائها بالنفط والغاز الروسي وذلك فيما لو وافقت كلتا الدولتين على السير في المخطط الأمريكي، وهو أمر مستبعد.
خامسًا: الحرب على روسيا لم تقف عند حدود الحصار الاقتصادي، بل اتسعت وتمددت بشكل مذهل لئيم يتجاوز العديد من المحظورات لتشمل كافة الحقول تقريبًا ومنها الرياضة والموسيقى والأفلام والتعاون الثقافي بشكل عام بالرغم من أن العالم متفق على فصل السياسة عن الرياضة مثلًا. الهدف الواضح هنا هو رغبة أمريكية في عزل الاتحاد الروسي عن أمريكا والغرب بشكل تام وكامل خدمة لهدف الحد من الانطلاق الروسي كقوة عالمية في نظام دولي جديد.
سادسًا: تتعامل الصين مع هذا الوضع المضطرب الشائك بصبر صامت لا تسمح بموجبه بالإخلال بالتحالف الاستراتيجي بينها وبين الاتحاد الروسي، ولا تسمح بالوقت نفسه باستفزاز أمريكا التي تتململ في عقالها وهي تشعر أن الأمور في العالم لا تسير في صالحها وصالح النظام الدولي احادي القطبية الذي تقوده. الصين هي المارد القابع ضمن حدوده الى أن تأتي اللحظة المناسبة لانطلاقة. وهو أصلًا لم يسمح لإدارة دونالد ترامب باستفزازها إلى حد الصدام لأن الأمور، طبقًا للموازين والحسابات الصينية الدقيقة جدًا، لم تنضج بعد. ولكن، مرة أخرى، كل ذلك تفعله الصين ويتم دون الاخلال بالتحالف الاستراتيجي بين الصين والاتحاد الروسي، علمًا أن الصين قد أبدت استعدادًا مبكرًا لشراء فائض الغاز الطبيعي والنفط الروسي مهما بلغ ذلك الفائض.
سابعًا: كما أوضحنا سابقًا، الحرب في أوكرانيا سوف تؤدي، مهما كانت نتائجها، الى تغيير طبيعة العالم كما نعرفه سياسيًا واقتصاديًا وإعادة صياغته وتوجيه مقدراته ومسيرته بما يتناسب ومتطلبات التكنولوجيا العالية، ضمن نظام دولي جديد متعدد الأقطاب. هذه هي الحقيقة وراء الموقف الأمريكي والغربي من الحرب في أوكرانيا والذي تحاول أمريكا استغلاله لإضعاف فرص الاتحاد الروسي في العودة مجددًا كقوة عظمى في نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
ثامنًا: النظام الدولي الجديد أو عالم ما بعد حرب أوكرانيا سوف يعتمد اعتمادًا متزايدًا على التكنولوجيا الرقمية العالية في إدارة شؤون الدول والمجتمعات. الحصار الاقتصادي والتكنولوجي الذي تمارسه أمريكا والغرب ضد روسيا سوف يدفع روسيا والصين ودول أخرى الى العمل بشكل جدي على خلق منطقة اقتصادية جديدة خارج نطاق النفوذ الغربي، وكذلك على فك سيطرة أمريكا وقبضتها على التكنولوجيا الرقمية العالية وتطبيقاتها وطرح بدائل جدية ومؤثرة لها، خصوصًا بعد أن ارتكبت أمريكا الخطأ الخطيئة بإخضاع تلك الاحتكارات مثل ميكروسوفت، وفيسبوك وتويتر وأبل وغيرها الى متطلبات السياسية الأمريكية والى نهج الحصار الاقتصادي والتكنولوجي الذي تمارسه ضد الاتحاد الروسي، وقبل ذلك ضد الامتداد والتطور التقني الصيني في هذا المجال.
وهكذا، فإن المزيد من السيطرة السبرانية على كافة أوجه الحياة للإنسان الفرد سوف تدفع الدول الكبرى الى مزيد من الاستثمار في خلق أدوات التكنولوجيا الرقمية الخاصة بها وبشعوبها، وهذا هو السلاح الجديد في العلاقات بين الدول خصوصًا الدول الكبرى، وهو الأساس الحاكم للنظام الدولي الجديد في ظل استحالة استعمال الخيار النووي.