مونديال قطر 2022 مبروك.. ولكن!!

د.موسى العزب
5 دقيقة وقت القراءة

لكرة القدم العالمية حساباتها الخاصة.. ولأن لها عشاقها وسطوتها الصاخبة، فإن الكتابة بموضوعية حول هذه المسألة، تعد مغامرة شاقة، وأشبه بالسير فوق الأشواك، أو السباحة عكس التيار!!

الدول الكبرى إقتصاديا وعسكريا، ليست بالضرورة عظمى كرويا، أمريكا والصين مثلا؛ لا تعادلا الأرغواي الصغيرة على المستوى الكروي، إلا أن عالم البزنس لكرة القدم مقسم أيضا بين شمال إحتكاري فاسد مستبد، وجنوب مفقر، منبهر، جزع؛ رغم أنه يشكل مصدرا هاما من عوائد المشاهدين، و”الموارد البشرية” زهيدة الثمن لكرة الشمال. هذه الحسابات صحيحة بشكل كبير، وإن كانت بعض دول أمريكا اللاتينية، وغالبية دول البترودولار الخليجية تشكل إستثناءات نسبية!!

ولكرة القدم العالمية عالمها العميق، وقوانينها الخاصة!!
التعاملات في هذا العالم تخضع لنظام السوق، والشركات العابرة للقارات، وتدفقات الإستثمارات الرأسمالية في بورصة “بيع وشراء” اللاعبين، وصفقات شراء الأندية الكبرى، وسوق الإعلان والإعلام الرياضي، وإتجاهات تدفق السيولة المتحققة من كل ذلك، حيث تصب بغالبيتها في بيوتات المال الرأسمالية الغربية!!
في العام 2017، بلغت عمليات هذا القطاع التجاري السوقية حوالي 800 مليار دولار، في بيئة مغلقة فاسدة تسيطر عليها وتتحكم فيها منذ أكثر من أربعين عاماً، المافيات المؤثرة الثلاث؛ البرازيلية والإيطالية والإسبانية بالترتيب، وتتبعها عن قرب؛ الألمانية والإنجليزية، وقد دخل البترودولار الخليجي إلى هذا السوق في العقدين الأخيرين، عبر عمليات شراء هائلة لأندية أوروبية من قبل صناديق السيادة الوطنية، وأموال الأسر الحاكمة، حيث إلتحق عضويا بمنظومة الفساد، وإنضبط لقوانينه.. ولا شيء يتكلم هنا سوى المال والرشا لكسب الحكومات والإتحادات الكروية صاحبة النفوذ!!

كرة القدم العالمية، يسيطر عليها رؤساء أندية وحكام وإتحادات كروية ونجوم ومجموعات مصرفية.. أرقام إستثمارية هائلة لا تُترك بتاتا لسحوبات القرعة التضليلية، ولا لعفوية وحماس الجمهور، ولا لطموحات الفرق الوطنية، وهي بعيدة كل البعد عن قيم العدالة والتنافس الرياضي النزيه.
أولوية الإنحياز هنا تمنح للاعبين النجوم الذين يستدرجون أعلى الموارد في شباك بيع التذاكر، وإلى فرق الأندية المترفة، وماكينات المراهنات والمضاربات الرياضية، وتوجهات شركات الإعلان، كل ذلك يتم ترتيبة بصرامة في العوالم الخلفية المعتمة للعبة، وتُترك “البترينة” الأمامية للمشجعين تحت أضواء الإمتاع البصري، والغرائزي، وجذب الزبائن من كل الأذواق لتسجيل أكبر أرقام حضور ومشاهدات.
ويفسح المجال بعد ذلك لتأجيج صراع المشجعين حول فرقها أو منتخباتها الوطنية، أو لاعبيها المفضلين، لتبني عصبياتها القومية والفئوية والعرقية كما تشاء.. كل ذلك لا يهم، طالما، يتحول هذا الهوس إلى مضاعفة الأرصدة في صناديق قطاع تجاري، ينمو بنسبة تقارب الـ 15% كل عام.
في أول يوم “للمونديال” لا نرغب بإفساد فرحة الكثيرين، وأتمنى للجميع أن يستمتع بهذه الإستعراضات المبهرة، والبذخ غير المسبوق، سيما وأن “العرس” القطري المنتظر قد إنطلق بكل صخبه وضجيجه..
ولكن، هل حقاً نستطيع أن نرفع شعار “كلنا قطر” دون التحدث عن الأساس المنهجي والأخلاقي الذي قامت عليه التجربة القطرية في تنظيم المونديال على أراضيها؟!
هل نستطيع ان نتجاهل كل القيم الرياضية ومعاني التنافس العادل على الميدان، أمام سطوة بريق الإستعراض وصخب الإعلام؟!
هناك من يحاول إخفاء هذا الإسفاف والتبذير الماجن خلف تعويضات دينية مظهرية، مثل قيام السلطات القطرية بنشر لوحات للأحاديث النبوية في أرجاء البلد.. وهم يعرفون بأن مقاصد الدين يدعو إلى صيانة المال العام، وحمايته من الهدر والإسراف.
قطر دفعت رشا بملايين الدولارات، حتى “تُمنح” حظها في تنظيم المونديال، (تمت محاكمة، وإدانة من قبضوا منها ومن غيرها).
ومنذ أن وقع “الخيار” على قطر لإستضافة نهائيات كأس العالم 2022، فُتحت محفظة مالية قدّرتها السلطة بـ 200 مليار دولار؛ لإقامة ملاعب مكيفة وتجهيزات رياضية وترفيهية ومبيت للفرق والمشاهدين، وتمويل إعلام ومصفقين ومدّاحين، وإسكات المشاغبين.. وقد وصل الإنفاق عمليا إلى 220 مليار دولار، بعد أن خضعت الدوحة لإبتزازات ومطالبات لم تتوقف حتى يوم الإفتتاح!!
وإذا كان تعداد مواطني قطر يساوي 380 ألف نسمة، كم سيكون نصيب الفرد القطري الواحد من هذا الهدر المالي؟؟
علما بأن ثلث هذا المبلغ كان يمكن له أن يطلق حملة تنمية حقيقية في كل البلاد العربية!!
إستخدمت قطر فرق كشافة لصيد اللاعبين.. وتعاملت مع وكلاء أوروبيين من محترفي الإتجار بالبشر الكروي، من أجل تدعيم قدرة “الفريق الوطني” على المنافسة قاريا ودوليا، وسهل من ذلك قوانين الفيفا (الفاسدة التي لا تُشرف أحدا)، وهي نفس القوانين التي تقوم في جوهرها على تسليع كل شيء، وتغرق في وحول الفساد المالي والإداري، وتشرعن الرق والنخاسة في سوق كرة القدم. بعض من إشترتهم قطر أنتهز فرصة “كسب إمتيازات هائلة، ومبالغ كبيرة” وفاز بفرصة اللعب بالمنافسات الدولية دون تعب، حارمين أوطانهم من كفاءتهم وإمكانياتهم في منتخباتهم الوطنية!!
خسئ رأس المال الغربي، والبترودولار الخليجي، وهو ينشر الشرور أينما حل.. حتى جمالية الرياضة ونبلها لم تسلم من فسادهم وتعدياتهم!
للعلم؛ أحب منافسات كرة القدم، وسأحاول أن أشاهد بعضها، مع تمنياتي للأندية العربية بتحقيق نتائج جيدة.

وكل مونديال وأنتم بخير!!

شارك المقال
متابعة
  • الدكتور موسى محمد عبد السلام العزب
  • * مواليد عمان/ في 2 أيار 1951.
  • * حاصل على شهادة البكالوريوس في الطب من جامعة وهران/ الجزائر في العام 1978.
  • * عمل في المستشفيات والمراكز الطبية للهلال الأحمر الفلسطيني في سورية ولبنان، حتى العام 1982.
  • * حاصل على شهادة التخصص العليا في أمراض النساء والتوليد من الجامعات الفرنسية عام 1986.
  • * عمل طبيباً إختصاصياً لأمراض النساء والتوليد في مستشفى الهلال الأحمر الأردني لمدة 25 عاما، وعيادة خاصة حتى اليوم.
  • * عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني.
  • * منسق الحملة الوطنية، "صحتنا حق".
  • * ناشط إجتماعي ونقابي وسياسي وإعلامي، لمدة تمتد لأربعة عقود.