لطالما اعتاشت السلطة الفلسطينية في سنوات سابقة على خطاب سياسي مثل معنى ومبرر وجودها، وهو الخطاب القائم على “حل الدولتين” وعملية السلام، فقد امتلأ قاموسنا السياسي وازدحمت وسائل الإعلام بمفرداته.
بعد “الانقسام” بقليل جاء نتنياهو ليغلق هذا الباب نهائيًا. فلم يجد سببًا ليستمر بهذه المسرحية، وبدل من ذلك أخذت ما تسمى “الإدارة المدنية” تتوسع في حياة الفلسطينيين من جديد، وظهر لدينا “المنسق” كحاكم فعلي للضفة. وهذا يعني أن السلطة باتت عارية لا خطاب يسترها ويعطي وجودها المبرر والمعنى. لذلك قفزت إلى خطاب بديل يتمثل في “معركة المؤسسات الدولية”، كالحصول على عضوية في الأمم المتحدة والانضمام إلى منظمات هنا وهناك، وحتى التلويح بمحكمة الجنايات الدولية، وكل ذلك طبعًا بالتوازي مع خطاب “الرخاء الاقتصادي” الذي برز بقوة بعد عام 2008.
ولكن كما يلاحظ أغلبنا، كان هذا الخطاب أقصر عمرًا من الخطاب السياسي السابق، وسرعان ما فقد سحره. فهو في شقه الاقتصادي تكشف عن طبقية مقززة، ومعركة المؤسسات الدولية باتت مثار تهكم وسخرية غالبية الفلسطينيين، خاصة بعدما هدد عباس في أكثر من مناسبة دون التزام؛ وكأن معنى ومبرر السلطة بات محصورًا في دائرة مجتمعية ضيقة وهي غالبًا مستفيدة من المرحلة.
ومما زاد أزمة عدم امتلاك السلطة لخطابها الخاص القادر على استقطاب غالبية الناس حولها، هو قدرة المقاومة على الظهور بخطاب متماسك مقرون بالفعل، حتى باتت تؤثر في ملفات وطنية مركزية كالقدس والأسرى، وذلك في قلب الضفة الغربية، ولم تعد محصورة في القطاع. بمعنى آخر، هنالك تحولات كبيرة في توجه الشارع بالضفة.
هذه التحولات هي تهديد حقيقي واستراتيجي للسلطة، وهذا ما أوصلها إلى درجة أن تنافس أسيرًا على انتصار جوعه، وهي التي قد تفسر أيضًا تنامي ممارستها للعنف في العامين الأخيرين ضد أي حركة احتجاج شعبية أو نقابية، وأن تغض الطرف عن عنف عشائري هنا وهناك. ولكنها تدرك أيضًا بأن ممارستها للعنف وحده سيعمق أزمتها على المدى البعيد، خاصة في ظل عدم امتلاكها لخطاب سياسي وتمدد خطاب مضاد تحرري.
لذلك فهي تحاول مؤخرًا باستماته السيطرة على الواقع في الضفة بطرق مختلفة، والتي من ضمنها الهيمنة على المؤسسات غير التابعة لها بشكل مباشر، أو على الأقل وهذا المهم هنا، سلب تلك المؤسسات والحواضن الاجتماعية المختلفة القدرة على إنتاج وتعزيز “الخطاب المضاد” التحرري. أي أنها في الوقت الذي لم تعد فيه قادرة على مقارعة الخطاب بالخطاب كما اعتادت منذ بداية أوسلو، عليها إذًا أن تجفف كل حواضن ومنابع الخطاب المضاد.
الجامعات واحدة من أهم تلك المؤسسات، وهي كما توصف في أدبيات مختلفة، “مؤسسة أيديولوجية” أي أنها قادرة على أن تكون أداة ناعمة في يد السلطة تنشر خطابها وتعززه بشكل يظهر وكأنه “محايد”، وقد تكون أداة مهمة لتفكيك خطاب السلطة والانقلاب عليه، وهنا هي المعركة.
طبعًا، هذا لا يعني أن الجامعات الفلسطينية وخاصة في الضفة لم تتأثر طوال السنوات الماضية بأيديولوجيا السلطة، بالعكس لقد تأثرت كثيرًا وهذا واضح في برامجها الأكاديمية، وفي تحول شريحة من كوادرها الأكاديمية إلى أدوات تعزز خطابها السياسي الرسمي وتنشره، وحتى الحركة الطلابية تأثرت سلبًا، ولكن مازال هنالك هوامش ترفض هذا الأثر وتقاومه وتتبنى الخطاب التحرري الأصلي وهذا ما بات يقلق السلطة وهي في حال ضعفها الحالي.
من يقرأ المشهد السياسي الحالي بالتجزئة، فهو سيرى أن مشاكل الجامعات مجرد مشاكل “تقنية” كما تفضل بعض إداراتها تسميتها، ومن يريد أن يقرأ المشهد بشمولية، فسيجد أن ما يحدث في الجامعة هو امتداد لما يحدث في المجتمع، وبالتالي لا يمكن للحلول أن تكون إجرائية أو تقنية.
وليس هنالك أسوأ من دور “المثقف” والأكاديمي والإعلامي الذي حين تشتد التناقضات في مجتمعه وتصل إلى مرحلة التغيير، يهرب إلى المجاز وإلى الكلام الرمادي تحت شعارات الحيادية والصالح العام والوحدة الوطنية، فهو باسم حياديته هذه يساهم في دعم المسيطِر على المسيطَر عليه وفي إحباط التغيير وإبقاء الحال على حاله. وستستمعون إلى أسطوانته هذه كثيرًا الآن.