خمسون عاما مرت على الحادي عشر من سبتمبر 1973، عندما نُفِّذ الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال بينوشيه المدعوم من واشنطن، ضد حكم سلفادور ألليندي.
سقط الرئيس الذي رفض الاستسلام ومغادرة البلاد، وبقي متمسكا بثقة بتفويض الشعب حتى لحظاته الأخيرة، وأخضعت البلاد من بعده لحكم فاشي دموي استمر لعقدين.
لا نقف اليوم هنا مثل الكثيرين لنستحضر بحنين سنوات الماضي التي كنا فيها مناضلين شباب على خطوط النضال الوطني والأممي فحسب، وإنما لنستحضر أيضا تلك الذكريات الأليمة عندما فقدنا أفضل ما لدينا في ميادين الصراع.
كنا فرحين بالتحولات التقدمية العميقة في تشيلي، لذلك فجعنا كفصائل حركة التحرر العربي بإنقلاب بينوشيه العسكري، لأننا كنا ندرك بأن الجريمة التي أرتكبت في حينه ليست مجرد حدث فولوكلوري عابر جرى في بقعة من أمريكا الجنوبية، وإنما كانت مؤشرا للهجوم الأمريكي المضاد، وكما تبين فيما بعد، بأنها كانت اللحظة التي بدأ فيها الهجوم النيوليبرالي العالمي، وهو الهجوم الذي قذف في وجوهنا تاتشر ثم بلير وشرودر ولحقهم ماكرون وغيرهم، ثم إمتد عبر العالم حتى طفى على شواطئنا.
وهكذا بواسطة دبابات بينوشه، وعلى حساب دماء وعذابات الشعب التشيلي بدأ “صبية شيكاغو” تجاربهم الإقتصادية الفاسدة، التي حولت دول العالم إلى مختبر مفتوح لتجارتهم القاتلة.
وقف ألليندي في الصفوف الأمامية في مواجهة العدوانية الإمبريالية وحروب رأس المال، وكان في طليعة معركة الشعوب المناضلة المتطلعة للتحرر والبناء، والتي أشرقت في سنتياغو في تشيلي لتعطي زخما ومعنى لنضالنا التحرري الوطني، ولإنسانية الشعب التشيلي وجوهر حياته، وحفزت قوانا نحو بناء أقوى تضامن وطني وقومي وأممي.
من زاوية أخرى، فإن تجربة ألليندي، قد كشفت خطأ التقدير عند “الرفاق” هناك، بأن الفاشيين والإستبداديين سيقبلون بنتائج صناديق الإقتراع في إنتخابات ديمقراطية.. وكما جاء في تقييمهم للتجربة؛ بأن السذاجة السياسية هي التي صورت لهم بأن الإعلان عن الوحدة الشعبية لوحده يكفي للدفاع عن الديمقراطية.. فعلمتهم التجربة ضرورة القطع الكامل والصريح مع عملاء الرأسمالية والنيوليبرالية، وأن الضمانة تكون في تعبئة الكتلة الشعبية وتصعيد الفعل الثوري بشكل مستمر من أجل تحويل المجتمع إلى ذراع مناهض للنظام الرأسمالي المعادي بطبعه للديمقراطية وللإنسانية، وأنه ليس هناك ما يعلو على إرادة الجماهير عندما يتم التعبير عنها
بالإرادة السياسة والدفاع الشجاع عن سلطة ديمقراطية تكرست بوسائل سياسية.
لقد خسرت حركة التحرر العالمي بهذا الانقلاب الدموي الرئيس سلفادور الليدي الذي كان يشكل إرادة واعية لبناء الاشتراكية في تشيلي وفي أمريكا الجنوبية، وخسرت تشيلي معه عشرات الآلاف من رفاقه؛ وقد بلغ عدد الضحايا المباشرين لشتى أنواع الانتهاكات حوالي 28 ألف شخص معارض، تم سجنهم وتعذيبهم واغتصابهم وقد أعدم منهم حوالي ثلاثة ألاف رجل وامرأة، بالإضافة إلى نفي حوالي 200 ألف شخص، واقتيدت أعداد غير معروفة إلى مراكز سرية واحتجاز غير قانوني. وما تبع ذلك من تأجيج صناعة الموت في الأرجنتين حيث قتل 30 ألف شخص، بانقلاب فاشي بقالب أمريكي، ما أدى إلى تأسيس واحد من أكثر أنظمة المنطقة وحشية.. ثم امتدت السلسة لتشمل بلاد أخرى.
ما حدث في أمريكا الجنوبية في ذلك الوقت ليس مجرد حلقة في أحداث إقليمية عابرة، بل هو درس نتعلمه لمستقبل الشعوب. ونحن لا نحيي ذكرى الضحايا فحسب -وهم يستحقون منا كل تكريم واعتزاز- بل نحتفل بإرادة الشعب غير القابلة للانكسار، والتأكيد على مواصلة الكفاح، ومهما حدث لن ننسى أهمية استمرار النضال بنفس طويل، وهذا ما يعطي معنى لكل شيء.
سقط بينوشيه وطواه العار، أما ألليندي فهو حاضر اليوم بقوة في الذاكرتين الشعبية والرسمية وكل مناحي الحياة في تشيلي، والعالم الحر.. سيما بعد وصول اليسار إلى سدّة الحكم من جديد، وإعادة الاعتبار إلى سياسات ألليندي الاشتراكية، التي جعلت التعليم والصحة والسكن حقاً لجميع المواطنين، وأعادت الكرامة لكل الشعب.