من الواضح بأن معركة “طوفان الأقصى”، قد أطلقت شكلا من الحوارات والسجالات الساخنة بين النخب السياسية والثقافية الأوروبية المستقلة نسبيا عن مراكز رأس المال، وأرجعت مقاربة القضية الفلسطينية إلى أصولها وجذورها التاريخية، وفي هذا المجال ورغم إستمرار تمترس قوى الشد العكسي، نلاحظ تقدم “نسبي” في إدراك هذه النخب لحجم المظلومية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني منذ بداية القرن الماضي، وأحقيتة في إستعمال أساليب النضال المتاحة لإنتزاع حقوقه.
في برنامج حواري على التلفزيون الفرنسي، يقول أحد السياسيين الفرنسيين: “بالنسبة لي، لا يوجد فرق بين من قتل مدني في محيط غزة، وبين الجندي الإسرائيلي الذي في خضم إغلاق المناطق لم يسمح لامرأة فلسطينية حامل بعبور حاجز طريق للوصول إلى المستشفى، لدرجة أن فقدت جنينها في النهاية، كيف يمكننا أن نعامل الفلسطينيين بهذه الطريقة، ثم ننتظر أمرا آخر غير رد الفضل لنا مضاعفا؟!”
ويضيف محاور آخر: ما هذه المفارقة؛ فعلى الرغم من الانتقادات التي تستهدف نتنياهو منذ أشهر بسبب مشروعه للإصلاح القضائي، إلا أن الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي احتشدت خلفه لتبرير السياسة الإجرامية التي ينتهجها في غزة.. هذا ليس مجتمعا طبيعا، هذه مجاميع أقرب إلى العمل العصابي!!
على أنقاض هذا الجيب الفلسطيني الذي يُدفن أطفاله تحت الركام ويتصاعد منه الدخان، هناك ينمو الجيل القادم من المقاتلين الفلسطينيين، وهم أكثر تصميماً من الجيل السابق، وقلوبهم مليئة بالغضب والكراهية التي لا يمكن إطفاؤها، وهذا بالضبط ما تسعون إليه بأرجلكم!!
وفي صلب الحوار بترز إشكاليات في مقاربة مسألة الإرهاب وتعريفه، وبدت المحاولة شاقة للغاية، لأن المجموعات التي تم حشدها تحت عنوان “الإرهاب” في السابق غير متجانسة بالمطلق. وفي هذا المجال يتم طرح السؤال حول المجموعات التي وضعها الغرب تحت هذا التصنيف؛
وعلى سبيل المثال: الميليشيا الأمريكية اليمينية المتطرفة التي ارتكبت هجوم أوكلاهوما سيتي عام 1995، أو تنظيم القاعدة، أو الجيش الجمهوري الأيرلندي، أو حتى حزب العمال الكردستاني…؟
إن وسم هؤلاء بالإرهاب، يعني اعتبار هذه الحركات تجسيدًا للشر المطلق، الذي يستحيل معه أي حل وسط، والذي ستكون الإستراتيجية الوحيدة بالتعامل معه هي القضاء عليه لضمان انتصار الخير. ولكن ألم يثبت التاريخ في كثير من الأحيان، سواء في أيرلندا أو الجزائر أو جنوب أفريقيا، بأن “إرهابيي الأمس” هم سادة الغد؟!
لماذا عندما يستدعي الصحفيون أي شخص لتناول موضوع غزة، يطلب منه مباشرة التنديد بحماس باعتبارها “منظمة إرهابية” متناسين بأن هذا التصنيف، قد أقره فقط وبشكل أساسي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ولم يتم اعتماده من قبل الأمم المتحدة، ولا من قبل العديد من الدول الهامة أو تلك الأقل أهمية، والتي تحتفظ بقنوات اتصال مع هذه المنظمة.
حتى “إسرائيل” ظلت لسنوات على اتصال مع حماس وسمحت لقطر بنقل مئات الملايين من الدولارات إلى غزة على أمل “شراء” الحركة.. ولكن هل يمكن أن نصدق بأن المنظمة التي حصلت على حوالي 44% من أصوات الفلسطينيين في الانتخابات التشريعية عام 2006 يمكن القضاء عليها نهائياً، أو يمكن وصمها بالإرهاب؟
لقد أثار إدراج حماس على قائمة المنظمات الإرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي في أوائل العقد الأول من القرن الحالي -بعد الانتفاضة الثانية- الكثير من الجدل. وظلت فرنسا مقتنعة بأنه من الأفضل أن تكون قادرة على التواصل مع الحركة الإسلامية، فحاولت فصلها عن جناحها العسكري، الذي كان مدرجا بالفعل على القائمة، تماما كما كانت كتائب شهداء الأقصى. رغم إختلاف حماس عن حركة فتح كمكون رئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية!!
إستسلمت باريس أخيرًا لضغوط شركائها في واشنطن وبروكسل، لكنها لا تزال ترفض إدراج حزب الله في هذه القائمة، كون الحزب يعتبر حزبًا سياسيًا حاضرًا في البرلمان اللبناني ولاعبًا رئيسيًا في السياسة الداخلية لبلاد الأرز.
قضية حزب العمال الكردستاني تكثف تناقضات ونفاق السياسات الغربية. فالحزب مسجل على قوائم المنظمات الإرهابية التي وضعتها أوروبا والولايات المتحدة، وبالتالي من الممكن معاملته على هذا الأساس. لكن في أعوام 2014-2015، نقل الغرب للحزب الأسلحة والذخائر لدعمه في وقف هجوم تنظيم داعش، والدفاع عن مدينة كوباني السورية، لدرجة أن لاقى “الحزب” إشادة واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم، وتناسى الجميع قوائم الإرهاب.
في جنوب أفريقيا لم يقتصر النضال على “السلمية” ذات النوايا الحسنة طيلة الوقت، بل إستخدم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي العنف في كثير من الأحيان وإن كان “إرهاب” جنوب أفريقيا لم يحتل نفس درجة الحدة التي إحتلها في حركات التحرر الأخرى.
والأرجح بأن هذا الاعتدال النسبي قد جاء بسبب أن المؤتمر الوطني الأفريقي قد حظي بحلفاء أقوياء على المستوى الأفريقي والدولي، شاركوا معه بشكل ملموس في كل معاركه. وكان بإمكانه الاعتماد على دعم الاتحاد السوفييتي والدول الحليفة له آنذاك، ودعم كامل من قبل حركة عدم الانحياز وحركة المقاطعة القوية في الغرب، والتي لم يكن يجرؤ أحد على تجريمها وهي تهز نظام الفصل العنصري وأنصار رأسمالية جنوب إفريقيا من جذورهم، مما سمح في وقت لاحق بحضور التدخل العسكري الكوبي في أنغولا، وخاصة عبر معركة كويتو كوانافالي في كانون الثاني 1988، عندما وجه الجيش الكوبي ضربة قاسمة لآلة الحرب في بريتوريا، شكل ذلك، وفقا لنيلسون مانديلا، “نقطة تحول أساسية في تحرير بلدنا”.
يمكننا أن نتفق الآن على أن “الأعمال الإرهابية”، هي تلك التي تستهدف المدنيين أو تؤثر عليهم في المقام الأول. ولكن ألم يتم استخدام طريقة النضال هذه من قبل العديد من حركات التحرر على نطاق كبير أو محدود حسب الظروف، وهنا علينا أن نتذكر بأن هؤلاء من ننعتهم بالإرهابيين في غزة الآن، قد واجهوا جيشاً حديثاً مدعوماً من كل الغرب، مجهزاً بالطائرات والدبابات والصواريخ، في قتال غير متكافئ على الإطلاق. ورعب إستعماري يومي، كان يؤدي في بعض الأحيان إلى الإبادة لعقود، أصاب السكان بالغضب والإحباط ورد الفعل. وهكذا يختبئ الرعب خلف لامبالاة من يتجاهل الحقائق، ويظل الإرهاب الاستعماري غير مرئي إلى أن يتفاجأ الجميع بالرعب المضاد..
وهكذا، بالنسبة للغربيين فإن الرعب الذي لا يتأثرون به، وغالباً ما يكون غير مرئي بالنسبة لهم هو العنف المطبق ضد الفلسطينيين، ولكن سرعان ما يتأثرون به عندما يموت الإسرائيليون، بينما القتل هو مصير الفلسطينيين اليومي.
وفي هذا السياق، هل كان من الممكن للفلسطينيين تجنب اللجوء إلى “الإرهاب”؟ لا نعتقد بذلك، فالفلسطينيون تُركوا دائما لمصيرهم، بما في ذلك من قبل العديد من الحكومات العربية، في حين أن إسرائيل هي التي تلقت الدعم غير المشروط من الغرب، والتواطؤ من الحكومات العربية، ولم يتأثر موقعها حتى بعد وصول الوزراء الفاشيين إلى السلطة في تل أبيب.
حماس جزء من حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، وعلينا أن نتعامل معها على هذا الأساس.