منذ 34 عاماً، تم تحرير السجين السياسي الاكثر شهرة في العالم بعد فترة اعتقال دامت 27 عاما. الحشود الجماهيرية التي خرجت لاستقباله كانت كبيرة جداً، وعمت أحاسيس الفرح والفخار جنوب أفريقيا وامتدت إلى كافة انحاء العالم، هذا الانعتاق من الاسر سمح لجنوب أفريقيا أن تحتل مكانتها المستحقة بين الدول وتلعب دورها كاملاً.. ومكنتها اليوم أن تقف بكل وعي وبسالة لتدافع عن الحق الفلسطيني أمام الصلف والإرهاب الصهيوني والإمبريالي.
نقف اليوم لنرى ماذا حل بإرث الاسطورة مانديلا وأين وصلت جمهورية جنوب أفريقيا. هل رأى حلم مانديلا بدولة متعددة متصالحة، النور؟
أم أن بصمة الابارتيد مازالت ماثلة في تلك الاراضي الخصبة؟ أين نقف اليوم في قارة تشهد كثيرا من الصراعات الصعبة؟
نشأ مانديلا في بلد متنوع وثري في أرضه ومجتمعه، وقد ترك التاريخ هناك آثارا عميقة على تراب وطني منقسم، واستقطاب اجتماعي حاد طغى عليه غياب العدالة، وتجذر التفاوت الطبقي والعرقي.
ولد نلسون مانديلا في العام 1918. في طفولته المبكرة تفتح وعيه على بلد منقسم بشدة، وتكرست هذه الصورة في شبابه عندما كان طالبا في الجامعة، وخبر الإذلال والترويع من نظام الابارتيد العنصري المهيمن على البلاد. كان الفصل يتم في كل مكان وفي جميع القطاعات؛ المواصلات منقسمة بين البيض والسود، يمنع على السود صعود الحافلات المخصصة للبيض، أما تلك المخصصة للسود، فعددها قليل وفي حالة مزرية، حتى مواقف الحافلات ومحطات القطارات والقاطرات مقسومة على أساس عنصري.
المنشآت الرسمية بمدخلين منفصلين، يتم من خلالها إذلال السود على المداخل المخصصة لهم. في كل مساء على ملايين السود مغادرة المدن الكبرى والعودة إلى معازلهم.. عمال وموظفين وطلاب يتزاحمون قبل حلول الليل، ولا يبقى إلا خدم البيوت.
سياسة الفصل العنصري، تُفرض بالقوة من قبل حكومة بريتوريا، وعندما يحتج السود على الظلم ويتظاهرون، كانوا يتعرضون إلى القمع بوحشية، ويسقط المئات برصاص أجهزة القمع، في معاناتهم من وحشية العنصرية العرقية والطبقية.
مانديلا المتمرد والثائر والسجين، واكب نضالات شعبه، وأسهم في تأسيس حزب المؤتمر الوطني الافريقي وترأس الجناح المسلح للحزب. عام 1963 حكم عليه بالسجن مدى الحياة نتيجة لنشاطاته الثورية، ولكنه واصل كفاحه من داخل المنفى والسجن، وتحول إلى رمز وقدوة للنضال ضد الابارتيد.
بشخصيته الأخاذة، وصموده على مبادئه وإيمانه بعدالة قضيته، تحول إلى أيقونة كونية في النضال ضد العنصرية ومن أجل الاستقلال. في نهاية سنوات الثمانينات، تحرك العالم خاصة في أوساط المثقفين والطلاب والنقابات العمالية، في حملات مناصرة لمناديلا وشعب جنوب أفريقيا، نضالات توجت بسقوط نظام الابارتيد واطلاق حرية “ماديبا” حيث تحول إلى بطل افريقي.
سار مانديلا أولي خطوات الحرية إلى جانب زوجته، وألقي خطابه الأول في استاد سوهيتو وسط حضور جماهيري حاشد، وأكد : “يجب أن نستمر بالنضال حتى إلغاء الابارتيد من جنوب افريقيا.. نحن ضد كل هيمنة سوداء، كما كنا دوما معارضين للهيمنة البيضاء”.
بعد أربع سنوات من تحريره، أصبح مانديلا أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، ويحسب له بأنه منع وقوع الحرب الاهلية في البلاد، والتي كانت متوقعة من الكثيرين. إنضمت جنوب أفريقيا إلى الأمم المتحدة، وتحولت إلى دولة صاعدة تلعب دوراً مؤثراً في كل أفريقيا، وانطلق مانديلا في نضاله ضد الايدز والفساد والفقر. حصل على عشرات الجوائز، بينها جائزة نوبل للسلام. تدرجت الأسطورة، وتكرست شخصيته كحكيم محباً للسلام، ومثلا يحتذى في البناء الديمقراطي، وشخصية توافقية خلال حقبة الحرب الباردة وبعدها، ومناصرا قويا لحركات التحرر وخاصة القضية الفلسطينية. والقضايا الأممية العادلة، وطالب في بلاده بتوزيع 30% من الاراضي على المزارعين.
بعد 11 سنوات على غيابه، أين وصل حلم مانديلا؟ بالتأكيد جنوب أفريقيا ما زالت تعتبر القوة الاقتصادية الأهم في أفريقيا وتمتلك فرصا أكثر مما كان متوفرا منذ 30 عاما، ولعبت دوراً تصالحيا هاماً في السياسات الافريقية، كما في ليبيا والسودان، وبين أثيوبيا ومصر حول سد النهضة، كما تضع سياساتها في خدمة نموها واقتصادها الذي يعتبر الثاني من حيث القوة بعد نيجيريا وقبل مصر.
اقتصاد قوي يفرض حضوره في العالم، وهي العضو الافريقي الوحيد في مجموعة G2O وشريكا هاما في البركس، وتشارك بقوة في الاتحاد الافريقي رغم تدني نسبة النمو عندها. تحاول السلطة هناك مسح بصمات الاباريتيد خاصة في التجمعات السكانية الكبيرة، وتبذل محاولات متواصلة لفكفكة التشريعات العنصرية للنظام، بخطوات تدريجية لتفكيك بقايا النظام العنصري.
حلم مانديلا في الدمج المجتمعي لم يكتمل بعد، والفصل العنصري ما تزال آثاره ملموسة بين الطبقات الفقيرة والوسطى، وأن كان أقل حدة في الفضاء العام والاسواق.
مع الفقر هناك مشكلة العنف المجتمعي، ولا زالت بعض الأحياء الشعبية تعاني تأخر البنى التحتية، رغم الاستثمارات الكبيرة.
بعد 34 سنة على انتهاء الابارتيد رسميا، ما زال المراقب يلمس بعض مظاهر الفصل في الاحياء المحمية والمؤمنة في جيهانسبورغ والكاب وبريتوريا حيث يتجمع البيض. بعض وعود مانديلا في توزيع الاراضي ما تزال لم تكتمل. البيض الذين يشكلون 8% من عدد السكان، يمتلكون 72% من الاراضي الزراعية، والبطالة تنتشر بين السود، والتفاوت الإجتماعي ملموس.
إلا أن روح مانديلا ما تزال تخيم على المكان والفضاء الاجتماعي، وحزب مانديلا يحافظ على سيطرته على الحكم لفترة امتدت لما يقرب من ثلاثة عقود، متئكا على تراث قائده التاريخي.
شخصية مانديلا الأخاذة، منحت هذا الحزب شرعيته التاريخية الكفاحية، وصانت المكتسبات الاجتماعية التي تحققت فترة حكمه، ولم يستطع أحد الاقتراب من نظام التقاعد المتقدم، والتغطية الاجتماعية الواعدة، وصيانة السلم الأهلي في المجتمع والحياة السياسية.
البلد يعاني من صعوبات كبيرة، ولكن الامل ما يزال منعقداً، وجنوب افريقيا بإمكانياتها المادية والبشرية، ما زالت تنتظر تحقيق حلم مانديلا بوطن “قوس قزح” المتنوع والمزدهر، والذي حقق سقوط الابارتيد، ويسير نحو حلم مانديلا بالعدالة والمساواة والتنمية، وتجربة مانديلا الفذة، ماثلة على الارض وفي الوجدان، واليوم يحق لمانديا أن يفخر بأبنائه وتلامذته وهم يقفون بصلابة وشرف في لاهاي ليدافعوا عن حقوق الشعب الفلسطيني العادلة، ويحاولون إعادة الإعتبار للعدالة الدولية في آخر حالة إستعمار إستئصالي إحلالي في العالم.
أوفياء لنداء مانديلا؛ “حريتنا ناقصة ولا تكتمل بدون تحرر فلسطين”.