من العجيب مطالعة موقف العديد من الفلسطينيين والأردنيين والعرب من مسؤولين وغير مسؤولين تجاه صعود أقصى اليمين الصهيوني إلى الحكم مرة أخرى بغض النظر فيما إذا كانت تلك المطالعة من منظور أكثر قتامة أو واقعية أو أقل.
إن صراخ أولئك المسؤولين الفلسطينيين والأردنيين والعرب وتحذيرهم من الخطر الكامن وراء صعود حكومة نتنياهو الى الحكم مرة أخرى يشير إما الى جهل في طبيعة الصراع الصهيوني مع الفلسطينيين، أو في طبيعة القضية الفلسطينية نفسها، وكأن مثل ذلك الصعود يشكل تغييراً في واقع الحال القائم في فلسطين منذُ عقود بغض النظر عن ماهية وطبيعة الحكومة الإسرائيلية القائمة في أي وقت من الأوقات.
موقف السلطة الفلسطينية من حكومة نتنياهو الجديدة هو أمر يدعو الى العجب وكأن ما جرى يشكل مفاجأة للفلسطينيين وتطور خطير في مسار القضية الفلسطينية، علماً أن السلطة الفلسطينية نفسها هي نتاج مباشر لسياسة قبول الاحتلال وليس نتاجاً لمقاومَتِهِ.
التغيير الذي تحمله أية انتخابات كنيست صهيونية هو تغيير يتعلق بسياسات صهيونية داخلية وليس بسياسات تتعلق بالفلسطينيين، حيث يوجد إجماع صهيوني على المؤشرات السياسية الأساسية للعلاقة مع الفلسطينيين، وبالتالي لا داعي لاصطناع الفَزَعْ.
الفَزَعْ مرتبط في هذه الحالة بالإعلان الصهيوني الرسمي عن حقيقة النوايا تجاه العلاقة مع الفلسطينيين، ومن هنا يأتي فَزَعْ الحكام العرب والفلسطينيين الذين يأملون في بقاء المصائب مخفية ومستورة دون الإعلان عنها مما قد يؤدي إلى إحراجهم أمام شعوبهم.
لا يوجد خلاف حقيقي في الهدف المتعلق بالفلسطينيين بين أقصى اليمين أو اليمين أو اليسار أو أقصى اليسار الصهيوني، الخلاف هو فقط في الأسلوب والوسيلة. وقد أثبتت الأحداث والتاريخ بأن معظم الأذى الذي أصاب الفلسطينيين كان مثلاً من صنع حكومات اليسار الصهيوني، والفرق بين اليمين واليسار في حالة التعامل الصهيوني مع الفلسطينيين يتمثل في درجة الإفصاح علناً عن النوايا الصهيونية حيث يتبنى أقصى اليمين الصهيوني مواقف متطرفة، ولكنها مُعلنة وتهدف الى الإسراع بالوصول الى نفس الأهداف، في حين أن الخلافات الحقيقية بينهما والمتعلقة بقضايا داخلية إسرائيلية ويهودية هي خلافات جديَّة ولا علاقة للفلسطينيين بها.
البكاء والنواح العربي والفلسطيني لفوز اليمين وخسارة اليسار الصهيوني بأطيافهم المختلفة سوف لن يغير من الحقيقة شيئاً فيما يتعلق بموقف الكيان من الفلسطينيين، حيث إن الاختلاف كله يتعلق بقدرة المسؤولين الإسرائيليين من خلال أحزابهم الصهيونية على المناورة في الوسائل وليس في الأهداف، كون تغيير الأهداف بالنسبة للعلاقة مع الفلسطينيين أمراً غير مطروح بشكل جدي في الأجندة السياسية للإسرائيليين.
قضية فلسطين سوف تبقى قائمة، والخطر الصهيوني المتزايد سوف يبقى خَطَراً عاماً على كل دول المنطقة بالرغم عن أية معاهدات يمكن أن تربطها “بإسرائيل”.
إن صعود أقصى اليمين الصهيوني إلى الحكم مرة أخرى، ومسارعة بعض المسؤولين الأردنيين إلى ترجمة المخاطر المترتبة على ذلك من منظور أردني بحت وكأن هنالك تسليماً بأن فلسطين قد ضاعت وأن قضية فلسطين قد انتهت الى الأبد، وأن ما نحن مقبلون عليه هو انتقال الخطر الصهيوني من فلسطين إلى الأردن، هو منظور يحمل في ثناياه خطورة القبول بالنهج الاستسلامي من جهة، وخطورة المغالاة في حصر الخطر المترتب على توليِّ أقصى اليمين الصهيوني الحكم في “إسرائيل” بالأردن فقط.
تقزيم علاقات الأردن “بإسرائيل” من خلال قضايا ضيقة ومحدودة مثل الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس، هو موضوع ُولِدَ في الأصِلً ميتاً كونه يستمد شرعيته من رضا وقبول الاحتلال الصهيوني والمتضمن اعترافا أردنياً واقعياً بسيادة “إسرائيل” على القدس، واستعمال هذه الوصاية الدينية، والتي لا تعني شيئاً في المقاييس الوطنية، كباروميتر لقياس حرارة العلاقة بين الأردن “وإسرائيل” هي أمرُ خاطئ.
المقياس الحقيقي والصحيح يجب أن يكون من خلال قياس موقف “إسرائيل” من الفلسطينيين تحت الاحتلال ومن الحقوق الفلسطينية بشكل عام.
من المؤسف أن تنَطَّحْ البعض للتعامل مع العلاقة “الإسرائيلية – الأردنية” ينحصر في المنظور الضيق الذي يكتفي بتكرار عزف أسطوانات تقليدية مثل أسطوانة الوطن البديل على إطلاقها وبمعزل عن أي عوامل عربية أو إقليمية أو دولية عموماً، وبمعزل عن العامل الفلسطيني تحت الاحتلال خصوصاً، ومدى قدرته على مقاومة أي مخططات للاحتلال، وهذا الأمر يتطلب بالإضافة الى الدعم العربي العام، مساعدة ودعم الأردن للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال باعتبار ذلك أمراً يصب في صلب المصلحة الوطنية الأردنية، الأمر الذي يستدعي التوقف عن حصر العلاقة الرسمية الأردنية بالسلطة الفلسطينية كما هو عليه الحال الآن، والتوقف عن تجاهل دعم الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال حيث أن ذلك يُعتبَر في حقيقته أمراً يتناقض والمصلحة الوطنية الأردنية وجهود الدفاع عنها .
إن تجاهل الفلسطينيين كعامل أساسي في معادلة العلاقة بين الأردن “وإسرائيل” من جهة، والعرب وإسرائيل من جهة أخرى، هو الخطر الحقيقي على مستقبل القضية الفلسطينية وبالتالي مستقبل الأردن ومصالحه، والعرب عموماً ومصالحهم، الفلسطينيون هم العنصر الأساسي الناقض للوجود الإسرائيلي وشرعيته المزعومة، وتعزيز دور الفلسطينيين وليس السلطة الفلسطينية هو الضمان لأن تبقى إسرائيل في موقف الدفاع عن النفس في سعيها للحصول على الشرعية المزعومة سواء بقوة السلاح كما هو الوضع في الحال العربية أو من خلال القبول والانصياع كما هو الوضع في حالة السلطة الفلسطينية أو لكليهما معاً كما هو الحال في الحالة الأردنية .
المطلوب “إسرائيليا” من الأردن لا يقتصر على الانصياع فقط للمطالب الصهيونية، ولكن أيضاً وبالإضافة القبول بما تطلبه “إسرائيل” لجعل تحقيق تلك المطالب ممكناً، وهذه تبقى مشكلة أردنية بحته وليست مشكلة الفلسطينيين كونهم في كل الأحوال هم الضحية وهم الطرف الخاسر وهم من َسُيرْغَمون على دفع الثمن.
المربع الذي يقف فيه الأردن الآن سياسياً هو حصيلة سياساته على مدى العقود الماضية، وكما دخل الأردن الرسمي هذا المسار باختياره، عليه أن يجد لنفسه المخرج السليم منه دون أن يكتفي بلوم الآخرين على ما فعله على مدى العقود الماضية.
أما أولويات الشعب الأردني الصامد البطل فهي تختلف عن أولويات حكوماته وحكامه، التزام الشعب الأردني بفلسطين وقضية فلسطين هو التزام حقيقي لم يهن ولم يضعف بالرغم عن كل المكائد والدسائس والمطبات السياسية.
الأردن ليس فلسطين وجميع الفلسطينيين يقولون ذلك وفلسطين العربية ليست الأردن، وجميع الأردنيين يقولون ذلك، وما بين هذا وذاك هو كلام قادة وحكام سواء أكانوا أردنيين أم فلسطينيين يسعون الى تمرير البرامج السياسية الخاصة بهم، مع أن ذلك مهما بلغ من درجة التمادي، لن يًغَيرِّ من الحقيقة شيئاً .