فزاعة “معاداة السامية” لماذا ومن أوجدها ؟!

د.موسى العزب
5 دقيقة وقت القراءة
cc127d

تدعي الطبقة السياسية الغربية بأنه منذ بداية القرن الحالي، وفي كل مرة يتجدد فيها “العنف” في الشرق الأوسط، كانت هناك زيادة في الأعمال المعادية للسامية في عدد ولو محدود من الدول الأوروبية.

ويمكننا الإقرار بأن بعض الدول الأوروبية قد شهدت -على فترات- تداعيات لأحداث الشرق الأوسط، من نوع هجمات على مواقع رمزية لليهود وُضعت في سياق “معاداة السامية”، ونعلم الآن أن من ارتكب هذه الأعمال -في الغالب- هم أشخاص مهمشون في مجتمعاتهم، وعاطلون عن العمل من سكان ضواحي المدن، متذرعون بتأييد القضية الفلسطينية.. بينما يرفض النشطاء من أصدقاء القضية الفلسطينية هذا الأسلوب، كما يرفضون نقل الصراع إلى الغرب.

ومن المهم التذكير هنا، بأن لدى بعض البلدان الأوروبية تاريخ طويل من “معاداة السامية” حتى قبل بلورة القضية الفلسطينية، وصولا إلى ترحيل اليهود إلى معسكرات النازية، أو وضعهم في معازل..

حالة الأميركيّ إلياس رودريغز اختلفت قليلا، فهو ليس شخصا مهمشا، ولم يأت من ضواحي المدن، ولكن عندما قام بإطلاق النار داخل السفارة الإسرائيلية، كان ينطلق من قرار فردي، ويعبر عن صوت الضمير الإنساني اليقظ، وينفذ واجب أخلاقي نبيل دون أن يطلب منه أحد القيام بذلك. ولكن سرعان ما اتُهم بمعاداة الساميّة.. !!

4cf7

ومع تدهور الوضع الجيوسياسي، وتلاشي الآمال في السلام في الشرق الأوسط في بداية هذا القرن، توطنت مكارثية جديدة، يصبح فيها مجرد ذكر فلسطين يعد بمثابة هجوم على اليهود وبالتالي “معاداة للسامية”، وأي انتقاد للحكومة الإسرائيلية يعرض صاحبها للعقوبة السياسية والمهنية.. وأصبحت خطابات إسرائيل وأنصارها أكثر عدوانية إلى حد كبير، ولم يعد من الممكن إجراء نقاش موضوعي وحر. ولم يعد يُسمح بالدخول إلى المنصات والمنابر الإعلامية المؤثرة إلا لأولئك الذين يتشاركون وجهات نظرهم. وكلما أصبحت “إسرائيل” في خطر على مستوى الرأي العام، كلما تصبح الرغبة في (حماية سمعتها) أهم من أي أولوية سياسية وأخلاقية أخرى.

 الصهيونيّة بالأساس هي منتج غربي استعماري، وإن كانت قد بنت وجودها على أساطير ذات طبيعة لاهوتية متناقضة.. ثم افتعلت أكذوبة “معاداة السامية” كأداة حربية للجم كل معادٍ لهيمنتها ومخططاتها، واستعملتها في نفس الوقت، كفزاعة مضللة تبني عليها مغالطات حمل اليهود للهجرة إلى فلسطين «أرض الميعاد».

بنى الصهاينة الأوائل فكرتهم الأولى على ادعاء استحالة اندماج اليهود مع الأمم الأخرى، وبالتالي ضرورة إسنادهم في تشكيل دولتهم المستقلة، وتواطؤوا ليجعلوا من مضايقة اليهود في أوطانهم حيث يقيمون واقعا يصعب معايشته.. فكانت الأيدلوجية الصهيونية هي المحفز الرئيسي لابتداع آفة “معاداة السامية”، وتسويقها، واستقبلت الصهيونية دوما العداء لليهود برضى كبير، وطوبته بكثير من الخداع لتعزيز كذبة “معاداة السامية” لتستثمر فيها سياسيا في خطابها ومشاريعها رغم عدم إيمان معظم القادة الصهاينة المؤسسين -الذين طغت لديهم النزعة القومية الأوروبية- بالديانة اليهودية!!

المفارقة بأن من اعتبروا أن اليهود شعب، وليس أتباع ديانة، هم أنفسهم من روجوا لبدعة الحقوق التاريخية، والأسطورة التوراتية التي أسموها “أرض الميعاد”، و”شعب بلا شعب، لشعب بلا أرض”. ثم بنوا فرضيتهم على فكر رجعي عنصري، يتجاهل أسس تشكل الفكر القومي الاجتماعي، ليأخذ بالبعد العرقي والتفوق البيولوجي، وصولا لخرافة “شعب الله المختار”..!!

   الآن يأخذ الوضع شكلا متطرفا، وتفرض قوانين متشددة جدا ضد “معاداة السامية”، ويتم النظر إلى “إسرائيل” كامتداد مصلحي وسياسي وحضاري للغرب. وإذا اعتبرنا بأن أهم انتصار أيديولوجي لإسرائيل هو استطاعتها إدماج معاداة الصهيونية، ومعاداة السامية في صلب النقاش الداخلي للغرب. وانعكاس هذا الأمر على غالبية المسؤولين الغربيين، فإن أنصار غزة ينجحون الآن بفرض غزة وفلسطين على الحياة السياسة في الغرب، وإدماجها بالنقاش البرلماني والاجتماعي الداخلي، رغم قيام المنظمات اليهودية الصديقة لإسرائيل بالعمل بكل طاقتها كسفارات وقواعد ثقافية وسياسية إسرائيلية داخل بلدانها، وتحاول بشكل مستميت فرض معادلة “إن معاداة الصهيونية هي أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية”، كما تحاول بعض مراكز الرأي، جمع التهديد الإرهابي، والإسلاموية، ومعاداة السامية. في ملف واحد وينجح هذا غالبا، مما يدفع الكثيرين إلى الصمت.

 الوضع أصبح أكثر صعوبة مما كان عليه قبل 25 عاما، مع تدهور خطير للمناخ الفكري والقيمي الغربي، فحلت الشتائم والتجريم محل الحجج والقرائن، والرهان الآن بأن تشكل غزة وأنصارها إرهاصات التغيير التراكمي في هذا المجال.

شارك المقال
متابعة

الدكتور موسى محمد عبد السلام العزب
- مواليد عمان/ في 2 أيار 1951.
* حاصل على شهادة البكالوريوس في الطب من جامعة وهران/ الجزائر في العام 1978.
* عمل في المستشفيات والمراكز الطبية للهلال الأحمر الفلسطيني في سورية ولبنان، حتى العام 1982.
* حاصل على شهادة التخصص العليا في أمراض النساء والتوليد من الجامعات الفرنسية عام 1986.
* عمل طبيباً إختصاصياً لأمراض النساء والتوليد في مستشفى الهلال الأحمر الأردني لمدة 25 عاما، وعيادة خاصة حتى اليوم.
* عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني.
* منسق الحملة الوطنية، "صحتنا حق".
* ناشط إجتماعي ونقابي وسياسي وإعلامي، لمدة تمتد لأربعة عقود.

اكتشاف المزيد من نداء الوطن

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading