إذا كان الفكر البشري هو نتاج لوعي الإنسان لواقعه وقدرته على فهم الظواهر السياسي التي يواجهها وبالتالي صياغة سلوكه تجاهها وكيفية التعامل معها دون الفصل بين الماضي والحاضر أو فصل بين مكان ومكان، ويتباين دور الإنسان من خلال طبيعة الهدف المتمثل بتغير الواقع السياسي جزئيًا أو شاملاً.

ولأن طوفان الأقصى يعتبر من الأحداث العاصفة التي عاشتها منطقتنا العربية ولا تزال، فإن ما أفرزه من فكر سياسي لم تقف حدوده داخل جغرافيا فلسطين، بل امتد ليشمل مساحة الوطن العربي، بل والعالم الذي انشغل كثيراً في تأمل ودراسة الطوفان أسبابه وانعكاساته وما يترتب عليه من نتائج.

في الأسباب

  • لم يكن الطوفان مقطوع الجذور عما سبقه من نضال فلسطيني من ناحية واستعار للهجمة الصهيونية من ناحية أخرى خاصة بعد تشكيل الحكومة اليمينية-الدينية واندفاعها نحو ما سمي بعام الحسم من خلال سياسة الضم، وسياسة الاستيطان، وتهويد القدس والأقصى.

لقد وجد العدو الصهيوني نفسه وكأن يده قد باتت طليقة وبشكل خاص بعد الاندفاعة العربية نحو التطبيع وخاصة السعودية التي كانت قاب قوسين أو أدنى من توقيع الاتفاق، وما يعنيه ذلك من تسويق للكيان على المستويين العربي والإسلامي.

وكان للقمع الذي مارسه العدو في الضفة والتنكيل ضد الأسرى، بمثابة الشرارة التي قادت إلى هذا الطوفان الذي حرف في طريقه الكثير من الأوساخ التي راكمتها سياسات الإذعان الرسمي العربي والاستسلام لسلطة أوسلو.

  • لقد نجح الطوفان في خلق تحولات هامة تاريخيًا واستراتيجيًا بعد قرن من النضال الفلسطيني، أبرز هذه التحولات في استراتيجيته الردع لدى العدو التي طالما كرسها من خلال تبني أقسى مستوى من العنف عاملاً بمقولة “جابوتنسكي” (المزيد من العنف حتى يصل العدو للاستسلام أو إلغاء وجوده).

كانت استراتيجية العدو تقوم على نقل المعركة (إلى أرض الخصم) بالإضافة إلى امتلاك عنصر المفاجأة، لكن الطوفان نقل المعركة إلى عقر الكيان والغرب الإمبريالي ليس على مستوى الجغرافيا فحسب، بل ثقافيًا وأخلاقيا، وباتت السردية الفلسطينية هي السائدة أو الحاضرة وبقوة.

وكان للطوفان تأثيره أكبر على مستوى ثقة العدو نفسه وبقوته، ففي الوقت الذي كان يتباهى بقوته بات يطلب وبإلحاح دعم العرب في مواجهة محور المقاومة.

وبقد ما أثبت الطوفان بخطأ ما كونه “الكيان” عن نفسه بأنه صاحب الجيش الذي لا يقهر، فإن شجاعة الفلسطيني التي أبهرت العالم، كرست صورة المقاتل الفلسطيني الذي لا يخاف الموت من أجل أن يحيا الوطن.

  • أما على المستوى الفلسطيني جاءت السياقات العامة أننا أمام حرب إبادة، حيث التشريد ومئات المجازر وآلاف الشهداء والجرحى والحصار المحكم لا ماء ولا كهرباء وغذاء شحيح أي من لم يمت بالقصف يموت من الجوع والمرض، هذا الإجرام المتأصل في العقيدة الصهيونية واستشهاد “نتنياهو” بيوشع بن نون (قال الرب لا تنسى ما فعل العماليق) وطالب بقتل الكل أطفالاً ورجالاً ونساءً.

هذا الطابع الإجرامي الكامن في لب الأيدولوجيا الصهيونية الدينية، كشف بوضوح شديد فساد الرأي الذي يقول بإمكانية صناعة السلام مع هذا العدو الذي انكشف طابعه كمشروع استعماري استيطاني عنصري لا يمكن التفاوض معه، وأن الصراع هو صراع مفتوح، فعلى مدى عقود لم تغض عمليات التسوية الدولية ومقررات الأمم المتحدة إلى حل الصراع ولم يحصد الفلسطينيون سوى الحصار والقتل.

لقد كسر الطوفان نمط الصراع الفلسطيني-الصهيوني إلى الأبد، كان للطوفان أثره الأكبر على الفكر السياسي العربي حيث تعمق الفرز ففي الوقت الذي التقت النخب السياسية من إسلامية وقومية ويسارية على قاعدة إدراكها لطبيعة المشروع الصهيوني كمشروع استعماري استيطاني.

كان هناك موقف رسمي عربي ينطلق من تبعيتها للولايات المتحدة وعلى قاعدة أن ما يهمها هو الاقتصاد والمصالح المالية وأن التضامن العربي بات من الماضي.

أعتقد أن الطوفان – الصمود الفلسطيني والممارسات الإجرامية الصهيونية، لعب دورًا أساسيًا في إزالة الغشاوة عن العيون الغربية، فكان لمظاهر الإبادة والتحريض على ممارستها أثر كبير في إطلاق ما يمكن وصفه ثورة في الوعي وتحديدًا على مستوى الشباب وطلاب الجامعات، فإسرائيل (الضحية) كما دأبت على تصوير نفسها، تكشفت وباتت متهمة بالإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني من قبل محكمة العدل الدولية وهي تصل للمرة الأولى، وأصبح قادتها مطلوبين كمجرمي حرب من قبل محكمة الجنايات الكبرى، وبرغم الدعم الأمريكي وما مارسته من ضغوط على المحكمة فإن الصورة الإسرائيلية لم تعد كما كانت وباتت حقيقتها عارية تمامًا كدولة مارقة.

والأمر الآخر الذي لا يمكن إهماله أن الموقف من الحرب على غزة بات قضية داخلية للعديد في الدول، بل إن الموقف من الحرب على غزة كان له أثر في تحديد طبيعة النتائج للدول التي شهدت انتخابات من بلدانها.

الطوفان ومحور المقاومة

في الوقت الذي كان محور المقاومة ووحدة الساحات تتعرض لتشكيك قوي وأن كل الحديث عن المحور ووحدة الساحات مجرد حديث على الورق لا قيمة عملية له، جاءت عملية الطوفان وعمليات الإسناد التي كرستها المقاومة اللبنانية حزب الله والحشد العراقي وأنصار الله أكبر دليل على مصداقية المحور وهو المظهر الأساس في عملية المواجهة مع العدو.

لوحدة الساحات ولم بعد موضوع الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية، وأعتقد أن عملية المواجهة على هذا المستوى يمكن اعتباره العلاقة الأبرز لمستجدات الطوفان.

الطوفان والنهوض

يرى مالك بن نبي أن من شروط النهضة أن يعرف الإنسان اللحظة التاريخية التي إن استغلها يمكنه جعلها هي التحول الأساسي في حياة أمته.

وإذا ما انطلقنا من أن طوفان الأقصى كان بمثابة اللحظة التاريخية التي أحدثت ما أحدثت من التحول في الفكر السياسي فإنني أرى أن توفير عناصر النهضة ستكون بالإمكان جعل الطوفان نقطة التحول الأساسية.

وأرى أن من أدلة شروط النهضة هو تحقيق الوحدة الوطنية على قاعدة المقاومة وقاعدة التمسك بالحقوق الوطنية، لأن الحديث عن الوحدة الوطنية دون أسس يعني الانجذاب نحو برنامج السلطة ونهجها المستسلم، ومما يزيد من فرص نجاح الوحدة والتخلص من نهج أوسلو هي انغلاق أفق التسوية وخاصة بعد تصويت الكنيست برفض قيام الدولة الفلسطينية، الأمر الذي يجعل من الحديث عن التمسك بالمفاوضات نوع من العبثية وأن الاستمرار بالالتزامات مع العدو ليست إلا تنازلات للعدو وتنكراً للواجب والمسؤولية الوطنية.

استنهاض الضفة

كانت الضفة من المسببات الرئيسية لطوفان الأقصى وما كانت تتعرض له من محاولات الضم، وهدم البيوت – الاستيطان واعتداءات المستوطنين والاقتحامات المتكررة للأقصى، والتنكيل بالأسرى، هذه الصورة كانت عنصراً مقرراً في الطوفان، الأمر يفرض أن تشهد الضفة حالة استنهاض شعبية شاملة لتكون الساحة الثانية للمواجهة مع العدو الصهيوني.

واعتقد أن الاحتلال أشد ما نخشاه هو انخراط الضفة في المواجهة، لإنها ستكون الأشد تأثيراً وإيلاماً للعدو بحكم التداخل بين القرى والبلدات من جهة والمستوطنات من جهة ثانية.

إن المزاج الشعبي العام في الضفة الداعم للمقاومة، وبؤر المقاومة والكتائب المنتشرة في جنين ونابلس وأريحا وطولكرم، كلها مؤشرات أننا سنكون أمام انتفاضة شعبية عارمة تكون ركناً أساسياً في النهوض الوطني العام.

دور الشتات الفلسطيني

شكل صمود المقاومة والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني نموذجًا فريداً فرض نفسه على العالم لرفض السلوك الإجرامي الذي ترتكبه إسرائيل.

ولعبت الجاليات الفلسطينية والعربية دوراً مميزاً في نقل الصورة بحيث نجحت في إحداث تحول حقيقي في الرأي العام وباتت القضية الفلسطينية في صدارة الأحداث وقلب الاهتمام، واهتزت الرواية الصهيونية.

إنني أعتقد أن استنهاض الشتات الفلسطينية والتنسيق مع الجاليات العربية والإسلامية من شأنه أن يشكل ركناً ثالثاً في عملية النهوض الشعبي الفلسطيني والعربي.

في معركة سيف القدس كان الفلسطينيين في الجزء المحتل عام 1948 دوراً بارزاً في دعم المقاومة والانتصار للأقصى والقدس، الأمر الذي يجعل من تحركهم أمراً في غاية الأهمية والتأثير.

أعتقد أن عملية الاستنهاض لا تستقيم بدون تحديد هدف سياسي واضح ومحدد تجمع عليه كل عناصر النهوض.

وأرى أن شعار إنهاء الاحتلال يمكن أن يكون شعاراً جامعاً ويجعل من طوفان الأقصى ذو مردود سياسي أكثر من كونه صفحة مجيدة ومشرقة في تاريخ نضالنا الفلسطيني.

شارك المقال
الدكتور سعيد ذياب الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني

اكتشاف المزيد من نداء الوطن

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading