لم أكن أتخيل أني سأكتب يوما كلمة عن صديقي جورج حبش بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله. كان أصغر مني سنا” لكنه كان شعلة من نشاط لا ينطفئ قارع الأحداث فصنعها و صال و جال في ميادين القضية الفلسطينية فملأ الدنيا و شغل الناس كأني به في مرضه الطويل لا زال مصرا” على الصراع، حتى مع الموت، قبل أن يمتطي صهوة جواده الأخير و يرحل.
و لكن إلى أين يرحل؟ و هو ما زال بيننا كأنه في ذروة نضوجه السياسي حين جعل من القضية الفلسطينية حجر الأساس في النضال العربي.
من فلسطين إلى بيروت إلى دمشق مرورا بمختلف العواصم، عربية كانت أم أجنبية، صار جورج حبش علما” فلسطينيا” ترى فلسطين حين تراه و تسمعها حين تسمعه و تدرك كم هي عادلة قضيتها حين تدرك عمق مشاعره.
كان الوجه الأنصع لفلسطين و الرمز البارز لشعبها كان ثوريا” كاملا”، لم يضع يوما حياته الخاصة أو علاقاته الشخصية في ميزان نضاله السياسي.
خاصم كثيرا”واختلف عميقا” مع الآخرين و لكنه كان يخاصم بشرف و يختلف على سياسات لا يؤمن بصوابها و يرى الخطر على القضية في تطبيقها.
لم يختلف يوما” سعيا” إلى موقف مزايد أو متمايز أو مكابر، كان صادقا” مع الآخرين صدقه مع نفسه، وفيا” لمعايير إيمانه و توجهه الفلسطيني قبل أي توجه آخر. و في هذا كان يقدم نموذجا” فريدا” للقائد الفلسطيني الملتزم قضية شعبه الرافض للمساومة عليها من أجل مكسب سياسي طارئ. و في هذه النقطة بالذات كان جورج حبش مختلفا” عن الآخرين، لقد كان ضمير القضية الفلسطينية.
لم نتقابل كثيرا” و لكننا تعارفنا قبل أن نلتقي، منذ سنوات النضال الأولى، هو من أجل فلسطين و أنا من أجل الجزائر.
بدأت أعرفه أكثر حين صرت سجينا” في وطني بعد انتصار الثورة، كنت أحس بأننا سجينان لقضية واحدة: تحرر الأمة من اجل تحرير فلسطين. لم تكن استقلالات الدول العربية إلا تعبيرا” هشا” عن مرحلة سياسية صارت وراءنا، أعلام و أناشيد وطنية و حكام، ولكن الاستقلال الحقيقي مازال بعيد المنال. التبعية الاقتصادية، و هي أخطر من السياسية، تجعلنا بيادق على رقعة واسعة، لا نعلم متى يجرفنا زلزال العولمة.
كنت و عبد الناصر متفقان على أن انتصار الثورة الجزائرية ليس إلا مرحلة لا بد من استكمالها بانتصار حركة التحرر الوطني في العالم العربي والعالم الثالث إجمالا. كنا نحث الخطى من أجل استكمال “عملية التحرير، و كانت فلسطين حاضرة في كل خطوة سياسية نقوم بها، من حركة عدم الانحياز إلى منظمة الوحدة الأفريقية إلى منظمة التضامن بين القارات الثلاث.
جورج حبش حينها لم يكن بعيدا” عن هذه الأحداث، كان نضاله السياسي، كقائد بارز في حركة القوميين العرب، يضعه في قلب الحدث، كان مواكبا لكل كبيرة و صغيرة في النضال التحرري العالمي، ينظر إلى حركة التاريخ من منظار القضية الفلسطينية. هذا الموقع جعله، في فترة من الفترات، يندفع نحو العمل الثوري برومانسية كبيرة أثارت إعجاب العالم و مخاوفه في آن خلفت آثار لا تمحى على القضية الفلسطينية.
و لكن جورج حبش في حركته تلك إنما كان مندفعا بإيمانه بعدالة قضيته وضرورة تحريرها من أسر السياسات العربية الرسمية والمساومات الدولية زمن الحرب الباردة، كان يحاول أن يخرج القضية الفلسطينية من سجنها العربي الرسمي كما من سجنها الدولي القائم على توازن القوى بين المعسكرين المتصارعين.
كنت، وأنا السجين حينها، أدرك أكثر من غيري، رغم اختلاف نظرتنا حول العديد من النقاط، حقيقة حركته، متفهما” لدوافعها بل و متعاطفا” معها إلى أبعد الحدود.
كان جورج حبش بالنسبة إلي القائد الثوري الذي يريد أن يطلق النسر الفلسطيني كي يحلق عاليا”فيراه العالم اجمع و يعجب به و يطالب بحل عادل لقضيته.
ان شخصية جورج حبش، المناضل الفلسطيني و القومي والأممي تمثل وحدة” لا تنفصم. و هو بعد موته يبقى ماثلا” في أذهاننا على صورته تلك: يبذل المستحيل لإطلاق النسر الفلسطيني و تحليقه عاليا.
كم نفتقده اليوم و كم تفتقده القضية.
من الارشيف/ أحمد بن بله