جورج حبش.. في ذكراه

د.موفق محادين
5 دقيقة وقت القراءة
الحكيم جورج حبش

كأنّي بالحكيم جورج حبش يقول: حينٌ من الدهر يمرّ على الخلق، فيجزعون جزعاً شديداً، ويظنّون الرجفة الكبرى قاب قوسين أو أدنى، ويصبحون بلا حول ولا قوّة…

أقدارٌ عمياء كغازلات المصير، وحاطبو ليل باسم الرب القدير، وهم أشدّ كفراً ونفاقاً..

يتنابذون بالألقاب على مرآى الدهماء، ويشربون من الكأس نفسها، صباح مساء..

العبرانيون وما كانوا، معاذ الله شعبه المختار…

أصحاب المودودي والوهابية، وما كانوا فرقة ناجية أو مبعوثين للعناية الإلهية…

تلك أراجيف كما الغرانيق الثلاث…

فيا أهل الربع والجليل…

عهدي كما الغفاري، في صحراء الربذ، أعجب لجائع لا يخرج على الناس شاهراً سيفه..

كما الحسين في كربلاء (دم يشبه دمي)..

كما أمير المؤمنين، عمر بن الخطّاب، يقيم صلاته في إيليا خارج القيامة ويطلق عهدتيه:

العهدة العمريّة (لا يدخل المدينة يهودي بعد اليوم)

وعهدة الحريّة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً)

لا يا أهل ايليا وجلعاد ومؤاب وفلسطين..

ما جئت لأتمم وأساوم بني إسرائيل وخرافهم الضالّة، بل لأنقض وأهدم وأبدد.

ما جئت بالناموس شريعة للعبرانيين وما شاكلهم من الأجلاف والأعراب.

ما جئت في عمود من النار كما ربّ البراكين يغطّي الشمس بغربال، ويرمي ظلّه على الأسوار….

أريحا في غابر الأزمان، والشام في آخر الأيام

أبواق ومزامير ورايات سود

ما جئت للذين يفسدون القرى كلّما دخلوها، ويعلون في الأرض علوّاً كبيراً، بين رحلتين: رحلة الشتاء والصيف.

ما جئت للمطففين، يبخسون القسط والميزان، ويمنعون الماعون، ويجعلون من بيت الله مغارة للمرابين واللصوص..

ما جئت للذين يمنون على الناس بإيمانهم، ويستمطرون الذهب والفضّة، كذباً ومكاءً وهم في صلاتهم ساهون..

– ما جئت بشيء من هذا…

– لا… وكأنّي به يقول..

صوت صارخ في بريّة العسل والجراد، ورسول للفقراء من كلّ الأمم..

فليمجد ابن الإنسان، معلّما وفادياً ومخلّصاً وقرباناً وشهيداً…

(من آمن بي وإن مات فسيحيا..)

لكنّه ليس إيمان الكسالى (إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون)

لا يا أهل قانا… كأنّي به يقول:

لا ليس كما فعل موسى وضرب الأرض بعصاه وانشقّ الماء من الأرض عذباً سلسبيلاً…

ذلك ما لا أراه…

وذلك عهد غير عهدي..

لن يصير الماء خمراً، ولن يبرأ الأبرصُ والمجذوم والكسيح برمشة عين ولمسة من يدي…

لن يفرح عريس وعروس باحتفال ومسرّات حيث أكون وحسب…

لا يا أهل قانا…

و ليس الإتّحاد فيّ كاتّحاد الفصول واختلاط الماء باللبن، أو كما دورة الليل والنهار…

ولو تعلمون، ذلك ممل ورتيب، وأثقل من لسان موسى على هارون، ولا يراكم شيئاً….

*    *    *

وكأنّي به يقول….

*    *    *

مبخرتي…

– من دخان النار في مواقد الرعاة والحطّابين…

– من روائح الخبز والطوابين…

– من عرق الأمّهات والجدّات…

-من ثنيّات الوداع في المدينة..

– من الرها والكرسي الرسولي في أنطاكية، وسائر المشرق…

– من الإسكندرية، والمحاججات الأولى في المجمّعات المسكونية…

– من القيمرية ومسجد بني أميّة الكبير..

– من بيت الحكمة في بغداد…

– من مكتبات قرطبة وإشبيلية…

– من آوغاريت وصور وقرطاج…

– من تراب الجنود على الحدود….

– من حماة الديار في الشام عليهم سلام…

من يريد مناولتي وفطيري وكأسي، ليأتي إلى مدرستي.

– حصّة في الحساب والعقل والأنوار..

– حصّة في تبجيل النساء، مريم وآمنة بنت وهب وفاطمة الزهراء وسناء محيدلي وأم جبر وتيريز هلسة ومشخص المجالي..

– حصّة في ثورة أكتوبر وهافانا وجمال عبد الناصر ودفاتر الديالكنيك والاشتراكية والصراع الطبقي والنشيد والأممي..

– حصّة في النقش والحفر والخط العربي.

– حصّة في الايقونات والجداريات

– حصّة في الحكايات والحب واول القبلات.

– حصّة في الحنطة وشقّ الأرض خلف المحراث والثيران.

– حصّة في الحصاد والأعناب وتقليم الدوالي وأغاني البيادر وطين البيوت..

– حصّة في الأهازيج ضد المستعمرين والعثمانيين:

– حصّة في المجد وترويض الحديد والعصاة وامتشاق السلاح.

– حصّة في الفخار ونفخ الكور والنار.

المكابيون (اليهود) في الأنحاء،

وطبول روما تقرع صباح مساء،

أصوات وأقنعة وأسماء..

تكفيريون، عثمانيون، نفطيون، رجعيون، اسرائيليون، وبرتقاليون..

فمن لا يملك سيفاً، ليبع رداءه ويشتري واحداً..

ومن لا رداء عنده، ليشحذ قلبه إباءً وعزيمة ومضاء،

وذلك أضعف الإيمان…..

*    *    *

كأنّي به يقول:

هذا هو عشائي الأخير، وتاج الشوك على رأسي..

تلك سمكتي، وهذا جسدي وخبزي، وهذه هي مدرستي وملكوتي.

ألف تلميذ وتلميذ..

نقّاشون، كرّامون، حطّابون، حصّادون، خبّازون، عازفون، حدّادون، مبدعون، صيّادون، ومقاتلون….

هكذا يصير الماء خمراً، ويبرؤ المرضى، ويصير العرس عرساً، ويفرح الأبرار الصالحون…. آمين

وكأني به يقول:

وما من شيء يدوم يا أهل قانا وإيليا ومؤاب وجلعاد..

لا الحنطة ولا الخوابي ولا السواقي والأسفار، دونما المباركين في كلّ العصور…

فلكل زمان ملكوته وألف بستان وصخرة.

هكذا الراحل الحبيب.

صخرة من هذا الزمان..

عمر كما الأولياء على مشارف السبعين..

موقف كما الشهداء على حدّ السكين.. وقلب شفيف غضّ كما الياسمين….

شارك المقال
كاتب ومحلل سياسي أردني