أنصار وأصدقاء أردوغان سعيدون جدا بخبطة “الشاطر رجب” الذي أسقط رهانات الأعداء وأنقذ الليرة التركية بضربة واحدة.
هؤلاء الأحباء لا يلامون، لأنهم عودونا دائما بأنه عندما يتعلق الموضوع بتركيا وأردوغان، حتى يُحجر على التفكير العلمي والموضوعية، وتنطلق العواطف والإرادوية والإسقاطات الغيبية.. ولا أحد يسأل نفسه: إذا كان أمر إنقاذ الليرة قد تم بهذه السهولة، لماذا إنتظر الرئيس كل هذه المدة، قبل أن يقوم بحركته الأخيرة؟!
الليرة التركية تحسنت لأنها خضعت لإجراء طارئ خطير يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية التي من الممكن أن تنعش المريض، وتعالج العوارض، ولكن نتائجها مرهونة بمواصلة العلاج الدوائي والجراحي للأسباب بشكل سليم.
نحن هنا نتحدث عن شأن إقتصادي، والسؤال الأول من أين سيحصل أردوغان على تكلفة “الإنعاش” قبل أن نتحدث عن تكاليف الإستشفاء؟ وقد لاحظنا بأن إجراءات إردوغان قد تبعها مباشرة قيام البنك المركزي التركي بحقن مبلغ يقدر ب 18 مليار دولار بالعملة الصعبة من مخزونه المتضعضع أصلا، والذي أنعشته قليلا المساعدات الخليجية التي تلقاها مؤخرا من قبل قطر والامارات، والجميع يدرك بأن ليس هناك مساعدات مالية، بدون أثمان سياسية!!
والسؤال الآن: كيف سيعوض إردوغان هذا النقص بالعملة الصعبة؟!
ولا أحد يجيب على هذا السؤال حتى الآن.. خاصة وأن إردوغان قد أكد في مداخلته على تمسكه بالإقتصاد الحر، فإلى أي مدى سيكون بإمكانه دعم البورصة من خزينة الدولة، ومواجهة مضاربات العملة، في نظام يتبع النهج الرأسمالي؟؟
إجراءات إردوغان إتخذت إثناء إجازة أعياد الميلاد في البورصات العالمية، وهذا معناه بأن علينا أن ننتظر قليلا قبل قراءة التداعيات السريعة، وقد جاءت في جوهرها معنوية سياسية، موجهة لطمأنة المستثمرين والأسواق والمواطن الذي بدأ يتظاهر بشكل يومي في الشارع.
معظم آراء خبراء الإقتصاد تقول بأن جزءًا كبيرا من الأزمة الإقتصادية التركية، تكمن في سياسات إردوغان الداخلية والخارجية:
في الداخل يستبد إردوغان بتحديد ملامح الإقتصاد التركي، ويتدخل حتى في التحديد اليومي لقيمة الفائدة، وقيمة صرف العملة، وسياسات الإقراض، ويقوم بإقالة أي وزير أو موظف كبير ينتقد سياساته.
في الخارج يتبع إردوغان نهجاً إشكاليا للغاية، ويفتح جبهات تدخل وصراع تمتد من أواسط آسيا إلى شمال إفريقيا، وشمالا إلى أوروبا. يمارس من خلالها اللعب على التناقضات بين خصومه المفترضين، ويبدل إتجاهات تحالفاته أسرع مما يبدل قمصانه، الأمر الذي يقلص من دائرة أصدقائه، ويوسع من جبهة الخصوم.
ولكن، العيب الكبير في لعبة التوسع والهيمنة هذه، هو في حاجتها إلى الكثير من الموارد، وتلك الموارد ليست موجودة لدى تركيا، وأهمها الطاقة، حيث لا تملك تركيا نفطاً أو غازاً خاصاً بها، وتعاني من فجوة مالية هائلة في وارداتها، فتوجه أردوغان بدباباته وجنوده وطائراته المسيرة وسفنه، إلى أذربيجان وليبيا وشمال سورية والعراق وشرق المتوسط..
دخلت تركيا في دوامة، تتطلب فيها كل جولة من الصراع من أجل الموارد.. إستنزاف المزيد والمزيد من هذه الموارد، الأمر الذي يهدد الاقتصاد التركي الصغير نسبياً، ويدخله في أزمات متتابعة. وصولا إلى حالة من الضمور التدريجي.
لقد بلغ العجز في موازنة الدولة التركية، في النصف الأول من هذا العام، حوالي 9.8 مليار دولار، وقد تحسن الوضع قليلا مما كان عليه إبان الحجر الصحي عام 2020، وبعد المساعدات الخليجية، إلا أن هذا التحسن لم يتم البناء عليه بإجراء إستدارة في السياسات الخارجية والخيارات الإقتصادية.
وهكذا فإن معضلة كيفية تمويل مغامرات السياسة الخارجية، بينما عجز الموازنة تشكل قلقا للأوساط الإقتصادية التركية، سيما وإن علاقات تركيا متوترة، وغير مستقرة مع أغلب القوى العالمية المؤثرة على المستوى العالمي.
وفي محاولاته العثور على المال، وتحفيز الإقتصاد، أصاب الرئيس أردوغان النظام المالي التركي في مقتل، من خلال إجبار البنك المركزي للبلاد -حرفياً- على طباعة النقود غير المغطّاة، وخفض أسعار الفائدة إلى مستوى أقل من مؤشر التضخم. كما قام بعدد كبير من الإقالات في أطقم البنك المركزي، ولجنة السياسة النقدية ممن عارضوا قراراته، دون أن يحصل على الفائدة المرجوة. بل تراجعت الليرة التركية بنسب غير مسبوقة.
وقد أنفق البنك المركزي 165 مليار دولار من الاحتياطيات على مدار العامين الماضيين لتحقيق الاستقرار. وبحلول أيلول الماضي، وصل الإحطياطي إلى 27.9 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك تركيا ما قيمته 40 مليار دولار من الذهب، وحوالي 65 مليار دولار محفوظة في البنك المركزي كاحتياطيات للبنوك التجارية.
يدرك إردوغان بأن سقوط الليرة أمر خطير للغاية بالنسبة لتركيا، لا سيما بالنظر إلى العجز المزمن والكبير الذي تعاني منه تركيا في ميزان التجارة الخارجية (4.26 مليار دولار في آب 2021)، وكذلك العجز في الحساب الجاري، بينما إرتفع معدل التضخم خلال عام واحد من 11%، إلى 19.58% إعتبارا من أيلول 2020.
عندما إتخذ إردوغان خطوات دعم الليرة، كان التضخم يتجاوز المعدل الأساسي، مما أدى إلى تسرب هائل لرؤوس الأموال، وجعل أنشطة البنوك والودائع فيها غير مربحة. في مثل هذه الظروف، لا يمكن للنظام المالي أن يصمد لفترة طويلة دون أن ينهار، وبدت إرهاصات ذلك على تركيا من خلال تفجر تداعيات الانهيار الاجتماعي، وإندلاع التظاهرات والإحتجاجات الشعبية وصولا لأعمال الشغب.
أمام هذا اوضع، عمل أردوغان على تخفيف التضخم المفرط في بلاده، لكن ذلك لم يحدث بالسرعة المأمولة، كما أن الاضطرابات الشديدة في الأسواق سرّعت من تداعيات الأزمة.
سيما وأن النمو الذي فاخرت به تركيا لعقدين ماضيين، أنما هو من فعل استثمارات عالمية، (أميركية في الغالب بنسبة تتراوح بين 60 الى 70%)، وهو عامل خطير وحاسم في حسابات ضمانات المستقبل، في وقت يشكك فيه الغرب من دور تركي مفيد على المدى المتوسط والبعيد ويتطلب منها لعب أدوارا واضحة في أزمات الإقليم، وشرق أوروبا.
أتقن إردوغان لعب دور الضحية المعتدى عليها، ويقوم بتأجيج النزعة القومية من خلال مزاعم الكراهية ضدّ الأتراك في أوروبا، على الرغم من أنّ كلّ التقارير تفيد بأنّ الأكثر مظلومية في هذا السياق هي شعوب البلدان التي تحتل تركيا أجزاء من أراضيها، وتهدد مصالحها.
قرارات إردوغان الأخيرة، قد تكون آخر طلقة في جعبتة لتحسين وضعه الإقتصادي، وتأجيل ساعة الحساب، وبات عليه أن يختار بين الإستمرار في ممارسة سياسة خارجية “تدخلية” ومستقلة نسبيا، مع تأجيج زعزعة الإستقرار الإقتصادي والسياسي الداخلي، أم أن عليه العمل على تقليص تدخله في الشؤون الدولية، مع الإلتفات إلى جبهته الداخلية؟!
المؤشرات المنظورة حتى الآن تشي بأن أردوغان يجري بعض الإنزياحات في سياساته الخارجية، بإنفتاح متدرج نحو المجال الخليجي من خلال بوابة الإمارات، ولكن أيضا وبشكل حثيث تتجه تركيا إلى تعميق علاقاتها مع “اسرائيل ” والذهاب إلى تطبيع معلن غير مشروط مع الكيان الصهيوني. وقد يفقدها هذا التوجه بعض من تعاطف العرب والمسلمين الذين يرون في تركيا وإردوغان الأمل في حماية القضية الفلسطينية، وإعادة “أمجاد” الخلافة، ولكن يبدو بأن إردوغان، وبعد أن تضاءلت خياراته، قرر المسير في هذا الخيار وتحمل تكلفتة، ويرى فيه خيارا يحمي الإقتصاد التركي من المضاربات، وفي نفس الوقت يحافظ على الدفع في خيارات الباب العالي التوسعية على معظم الجبهات.
إردوغان بحاجة لمعجزة لإنقاذ الوضع الإقتصادي التركي، كما أن إستمراره على نفس النهج، سيعمق من أزمة لن ينفع معها “ترقيع الترزي التركي”، ولا الصدمات بالكهرباء.