الكيان أهم من بايدن
من سياقات تطور المواقف والتصريحات الصادرة عن نتنياهو وقادة الحرب في الكيان الصهيوني ، ورصد مواقف الادارة الأمريكية بعد زيارة جاك سوليفان ، مستشار الامن القومي الامريكي للمنطقة ، يتضح ان “الدولة العميقة والمراكز المؤثرة في صناعة القرارات الاستراتيجية في الولايات المتحده” ، تُفَضِل التضحية بالمستقبل السياسي لبايدن على التضحية بمستقبل ووجود دولة الكيان الصهيوني “اسرائيل” . بموازاة ذلك ، ورغم الخسائر الباهظة وغير المسبوقة التي يتعرض لها جيش الاحتلال جراء مقاومة غزة الباسلة ، فان نتنياهو وقيادة الحرب الصهيونية يتبنون بشكل واضح خيار استمرار العدوان لأشهر عديدة ، ويروجون لذلك امام جمهورهم بتضخيم ما يسمونه الانجازات الميدانية ، وهي محدودة ومتوقعة في سياق هذه المعركة وطبيعتها ، من قبيل كشف عدد محدود من الأنفاق ومراكز تصنيع وتخزين العتاد لكتائب القسام والمقاومة.
أولويات الإدارة الأمريكية، صهيونية
لم تعد هناك سقوف زمنية واضحة تفرضها الإدارة الأمريكية على “اسرائيل” ، وما أعلن عنه سابقاً بسقف عدة أسابيع تم تعويمه لاحقاً ، ولغة الدعم الامريكي المطلق للكيان الصهيوني تتسيد الخطاب وتصريحات الناطقين باسم الادارة الأمريكية ، أما نتنياهو ، فيسعى لتعزيز جبهة داخلية تتوافق مع وجهة نظره بإدامة الحرب حتى “القضاء على حماس” و “التهجير لافراغ قطاع غزة” ، وفي القلب من هذه الجبهة أهالي الجنود القتلى ، فحجمها وتأثيرها أكبر من تلك التي يمثلها أهالي مَن ما زالو على قيد الحياه وقيد الأسر لدى المقاومة ، إضافة إلى قطاع اليمين المتطرف ويمثله بن غفير وسموتريتش .
نضيف لما سبق ، سياسة الإمعان في المجازر التي تجاوز عددها 1750 مجزرة ، أكثر من 70% من ضحاياها أطفال ونساء ، وما يرافقها من تدمير منهجي للبنية التحتية والخدمية والصحية والإيوائية ، وشح المساعدات الغذائية والطبية ، ووضوح التواطئ الرسمي العربي الذي لم يعد خافياً على أحد ، فهو لا يضغط ولا يُمارس ما يمنع سعي حكومة المجرم نتنياهو لتحقيق هدفها المعلن بالقضاء على المقاومة الفلسطينية ، بعكس الموقف الشعبي العربي الجارف الداعم للمقاومة . كل هذا يؤشر الى أننا أمام مرحلة قادمة قاسية وصعبة وطويلة نسبياً ، تتمثل باستمرار وتصعيد العدوان .
جدوى المقاومة
لكن بالمقابل ، فإن عوامل الصمود ، من تماسك الحاضنة الشعبية للمقاومة ، وصلابة موقف المقاومة السياسي ، وتطور أدائها العسكري العملياتي العصابي الذي فاق كل الحسابات والتوقعات ، كفيل بتحويل طموحات وأهداف التحالف الصهيوأمريكي وتواطؤ النظام الرسمي العربي إلى سراب يتبدد أمام هذا الإصرار الأسطوري على التمسك بخيار المقاومة ، الذي أحدث تحولاً استراتيجياً ، قلب كل المعادلات والمفاهيم المتداولة حول المقاومة الشعبية بأشكالها المختلفة .
نقف اليوم أمام نموذج من المقاومة الجريئة والمبدعة ، أعادت الاعتبار لكل ثوابت الصراع وجذوره التي حاول التضليل الصهيواستعماري وأداوته الترويجية والإعلامية تغييبها ومحوها من خلال تكريس وعي تجهيلي مشوه لدى الرأي العام العالمي ، في نفس الوقت الذي قوضت فيه طروحات الاستسلام والتنازل التي شيدت تكتيكها السياسي “الواقعي” على أساس قرارات مجلس الامن ، وحل الدولتين ، والأعتراف بحدود ١٩٦٧ ، كنتجة للحروب العدوانية الاستعمارية الاحتلالية الصهيونية في الأعوام ١٩٤٨ و ١٩٦٧. لاستكمال المشهد ، فإن المقاومة الفلسطينية وعبر ملحمة طوفان الأقصى كرست عملياً مفهوم وحدة الساحات وتكامل أدوار مكونات محور المقاومة ، واشتعال الضفة المحتلة الذي تواجهه قوات الاحتلال بسياسات الاقتحام والتدمير والاعتقالات المجنونة التي يقوم بها الاحتلال لاحتواء جذوة الحالة الثورية المتأججة دون جدوى.
محور المقاومة ، واقع وليس شعار
لأول مرة في تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني تنخرط عدة جبهات عربية من محور المقاومة ، في لبنان واليمن والعراق ، دعماً لجبهة المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة ، بفعل مقاوم ومؤثر ، يُحَيِد ما لا يقل عن نصف القوات النظامية والنخبة الصهيونية ، ويجبرها على الانشغال في مواجهة هذه الجبهات ، ويمنعها من الانخراط في دعم ألويته العسكرية المخصصة لمهاجمة قطاع غزة ، وقد شهدنا بالوقائع عدم وضوح استراتيجية العدوان البري ، وحجم ارتباك وتخبط قيادة الحرب الصهيونية ، والخسائر التي منيت بها قوات الاحتلال المتوغلة في محاور القتال في قطاع غزة ، مأ أجبر العدو على تغيير انتشاره أكثر من مرة وفي أكثر من محور ، وسحب بعض كتائبه لما أصابها من خسائر أخرجها من الخدمة ، وفرض استبدالها بغيرها.
لقد أصبح محور المقاومة حالة فاعلة ، وإن لم يوظف كل ما في جعبته بحكم عدة عوامل ، وفي مقدمتها أن المعركة مع الحلف المعادي الأمريكي – الصهيوني هي معركة استنزاف طويلة ، بفعل فارق القدرات العسكرية والتكنولوجية ، فحسابات المحور وانجازاته تقاس بمراكمة النقاط واستنزاف قدرات العدو الذي بنى استراتيجيته العسكرية والأمنية على الحروب الخاطفة ، وخوض المعارك خارج حدود فلسطين المحتلة ليبقي جبهته الداخلية بعيدة عن انعكاسات المعارك المباشرة وخسائرها في البنى التحتية وديمومة العجلة الاقتصادية والعنصر البشري .
هشاشة مجتمع الاحتلال ومشروعه
هناك أبعاداً كبرى وتحولات عميقة تحفر في بنية المجتمع الصهيوني ، وستظهر مؤشراتها للعلن في مرحلة ما بعد توقف العدوان على غزة ، تتمثل بتفجر الصراعات الداخلية متعددة الأبعاد ، وتحول في الأولويات الحياتية لقطاع مهم من هذا المجتمع الفسيفسائي المصطنع ، فاليوم يصبح أكثر وضوحاً ما نطق به “يوسي بيلين” قبل أكثر من عقد ونصف ، أن “إسرائيل” هي المكان الأقل أمناً لليهود في العالم في ذلك الحين ، ما دفع عشرات الآلاف قبل طوفان الأقصى ومئات الآلاف بعده للهجرة العكسية ، وسيدفع بأعداد أكبر للهجرة بعد توقف العدوان لأسباب مركبة ، في مقدمتها غياب الشعور بالآمان وليس آخرها الأزمة الاقتصادية التي خلقتها وستعززها كُلَف الحرب والعدوان على غزة .
في مطالعة للباحث في الثقافة والأدب العبري “الطيب غنايم” سبقت طوفان الأقصى يقول فيها “أن الصهيونية عموماً ومؤسسات دولة إسرائيل توجد في أزمات جادة لا يستهان بها وبثقلها” ، “التيارات اليهودية المختلفة التي تقف متناحرة داخل دولة إسرائيل يشل عملها وأدائها” ، و “إسرائيل توجد في أخطر تصدعات بنيوية داخلية ، إذ باتت منشقة اليوم ، بين يهود شرقيين ويهود اشكناز (قادمون من دول أوروبا الغربية) ، وبين متدينين (حريديم) وعلمانيين” ، فما بالنا بعد طوفان الأقصى وملحمة غزة التي ستعمق وتشعب الأزمات والانقسامات التي كانت قائمة قبل ذلك .
سننتصر بالمقاومة
لقد دخل خيار المقاومة وثقافتها ومحورها مرحلة جديدة ، تتطلب البناء على ما تحقق ، والاستعداد بتفاؤل ووعي ومثابرة لمواجهة استحقاقات المرحلة القادمة .