” لا تكتبي لي جوابا …لا تكترثي، لا تقولي شيئا. إنني أعود إليك مثلما يعود اليتيم إلى ملجأه الوحيد، وسأظل أعود “
بهذه الكلمات المفعمة بالرومانسية الثورية و العاطفة الجياشة خاطب غسان كنفاني الاديب و الروائي العربي الفلسطيني الأديبة غادة السمّان في تلك الرسالة المعبرة عن مدى الحس المرهف الذي يمتلكه هذا الإنسان الثوري الذي كان في يوم ما الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و عضو مكتبها السياسي.
قد يستغرب بعض الناس هذا الوجه العاطفي الملتهب لذلك الإنسان الثوري المناضل الذي قضى نحبه غيلة و غدرا في الثامن من تموز / يوليو عام ١٩٧٢ في تفجير سيارة مفخخة في بيروت العاصمة اللبنانية في عملية قذرة قام بها جهاز الاستخبارات الصهيوني الموساد لكن من المؤكد أن الرجل العاشق لوطنه فلسطين كما ظهر ذلك واضحا جليا في العديد من رواياته كراوية عائد إلى حيفا ، كان يكن عشقا لا حدود له لحبيبته الدمشقية الفاتنة الحسناء يسمح له أن يعبر عن هذا الأمر بكلمات تلامس شغاف قلوب العشاق حتى يومنا هذا و تلهب مشاعرهم .
على أية حال كثيرة هي المواقف التي تستحق أن تسطر بماء من الذهب لغسان كنفاني لكن من أكثرها عروبة و قومية و أصالة هو ذلك الموقف الذي اتخذه في مطلع العام ١٩٦٩ حينما خط بقلمه الحر كلمات عبر صفحات مجلة الحرية الناطقة بلسان الجبهة الشعبية من بيروت انبرى من خلالها مدافعا بشراسة عن حق العراق العظيم في اعدام أربعة عشر يهوديا من أعضاء شبكات التجسس التابعة للموساد في بلاد الرافدين بعدما تم القاء القبض عليهم متلبسين بالجرم المشهود الذي يعد خيانة عظمى لوطنهم الام .
لقد خاض غسان كثيرا من المعارك في حياته السياسية و الأدبية لكن تلك المعركة التي ذاد فيها غسان عن حياض عراق البعث الشرعي الاصيل في وجه حملة دولية مسعورة للنيل منه على خلفية إعدام هؤلاء الجواسيس في الساحات العامة ببغداد و البصرة كانت في ذروتها و على أشدها و يكفي للتدليل على مدى شراستها أن نتذكر عواء الذئاب المنبعث من قلب تل أبيب على لسان ليفي اشكول رئيس وزراء الكيان الصهيوني الذي وجه اصابع الاتهام إلى حُكام العراق الجدد في حينها بأنهم ينوون إعادة امجاد بابل القديمة في إشارة إلى السبي الذي تعرض له أسلافه الهالكين الغابرين على يد الملك المظفر نبوخذ نصر قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام باكثر من خمسة قرون .
لم يغفر الصهاينة لغسان موقفه القومي الإنساني النبيل هذا الذي كان من أهم المواقف القومية المشرفة له إعلاميا فرغم التنافس التاريخي الشديد بين حركة القوميين العرب التي انبثقت منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في العراق ، لم يمنعه ذلك الأمر من اتخاذ موقف يسمو على تلك الحزازيات الفئوية في سبيل قضية العرب المركزية الأولى و صراعهم المصيري العقائدي الوجودي مع الصهاينة الغاصبين لأرض فلسطين، فما أحوجنا الان إلى أمثال غسان الذي لم تحل إصابته بداء السكري المزمن اللعين دون أن يملأ الدنيا بإبداعاته العاطفية الرومانسية كما الثورية منها فبقيت حية في قلوبنا إلى يومنا هذا، سائلين له المولى عز وجل الرحمة و الغفران .