علم الجهل والتجهيل والمؤامرة الكبرى على العرب

د. عبد الرزاق بني هاني
4 دقيقة وقت القراءة
علم الجهل وفن التجهيل

عندما كنت طالباً في مرحلة البكالوريوس سمعت من استاذي في مساق التاريخ، وكان اسمه جون سويني، رأياً لم استوعبه ولم أصدقه آنذاك عن علم الجهل، وعن تخصص فرعي في التاريخ اطلق عليه “psycho-history”، أي التاريخ النفسي، وكان ذلك في العام ١٩٧٦ !!!

فكنت كثيراً ما أردد في نفسي مقولة “هل هناك علم اسمه علم الجهل والتجهيل، مثلما يوجد علم اسمه الفيزياء أو ما شابه؟. وكيف للعلم أن يكون مُجهلاً؟!.

وبقيت على رأيي هذا إلى أن أخبرني صديق أمريكي لي، يعمل في مؤسسة راند البحثية “Rand Corporation”، بأن هناك مؤسسات، تابعة لحكومات دول عُظْمَى، ومنها حكومة الولايات المتحدة، متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال، ثم تسويقه على نطاقٍ واسع.

من هم مستهلكو سلعة الجهل، حسب رأي صديقي؟

قال هم ثلاث فئات في كل مجتمع:

1) الفقراء في المجتمع، وجلهم من الأقليات الاجتماعية والدينية وعمال البلديات، وفقراء المناطق النائية وفقراء الريف، وعمال المزارع، وما شابه هذه التصنيفات.

لكن الفاجعة التي ألمت بي كانت شمول معلمي المدارس وأساتذة الجامعات في الفئة المستهدفة من هذه السلعة الملعون، وحسبما أخبرني به، فقد تصل نسبة هذه الفئات كلها في الولايات المتحدة لوحدها إلى ٩٠٪‏ من حجم السكان، وكان جنود القتال الأمريكيان مشمولين في هذه الفئة.

2) المتدينون الذين يؤمنون بالقدرية، فهم مستسلمون للقدر الذي يظنوا به أنه لا يتغير، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية تجهيل أكبر عدد ممكن من الناس الذين لديهم ميول دينية.

3) المغفلون الذين يعملون في الحكومات، وعلى وجه الخصوص حكومات الدول الفقيرة، وبالتحديد فئة التكنوقراط (الفنيين) الذين يقدمون النصح والمشورة لمتخذي القرار في دولهم.

فيتم تدريب هؤلاء على تمرير الجهل وتبريره تحت مسمى النظرية والعلم والإمكانيات والموارد، ويأتي في مقدمتهم المعنيون بالشأن السياسي و الاقتصادي، إذ تنحصر مهامهم في بث روح اليأس في نفس صاحب القرار من إمكانية الإصلاح.

وممارسة الكذب والكذب والكذب على عامة الناس وترسيخ الأكاذيب في أذهان العامة على أنها حقائق لابد أن يدافعوا عنها.

ومن جملة ما أخبرني به صديقي، وكان من أخطر ما قاله، بأن بث العداوة بين الأشقاء يندرج تحت صناعة وتسويق الجهل، وهو ما اجتهد به صانعو الجهل منذ العام 1906، فقلت ألهذا التاريخ يعود تطور هذا العلم ؟ فقل نعم، منذ مؤتمر هنري كامبل بانيرمان Henry Campbell Bannerman، والذي انعقد في لندن ودام لشهر كامل، وتم فيه رسم السياسة المتعلقة بالمنطقة العربية، قبيل انهيار الدولة العثمانية، ومن تلك السياسات أن تطلُبَ الدولة العربية تأشيرة دخول للمواطن العربي الذي كان من التبعية العثمانية، ويعيش على بعد أمتارٍ معدودة من حدودٍ رسمها ساسة المؤتمر.

كان أحد وزراءه اسمه ريتشارد هالدين قد قال متهكماً على حديث نبيكم “الأردن أرض الحشد والرباط”، “سأجعل من الأردن شعوباً متناحرة”!!

وللأمانة بأن حديث صديقي الأمريكي قد أذهلني من شدة الحير، وكنت أترنح بين الحقيقة والخيال من سطوة أفكاره ومعلوماته التي أضافها إلى مخزوني المتواضع.

أقرأ كثيراً في السياسات المحلية للدول المختلفة، وعندما أدقق في عمق الأوضاع السائدة في الدول المعنية لا أستطيع أن أدحض مصداقية هذا العلم وهندسته وصناعته، وآثاره المدمرة.

فاتعظوا يا أصحاب العقول، وتباً للجهل والتجهيل.

شارك المقال
  • امين عام لوزارة التخطيط الأردنية سابقاً
  • رئيساً لجامعة جرش  سابقاً
  • يذكر أن الدكتور بني هاني قد بدأ حياته العملية كموظفاً في جامعة اليرموك في العام 1979.
  • عمل في البنك المركزي في العام 1983.
  • عمل استاذاً في جامعة اليرموك منذ العام 1986، وحتى استقالته في العام 2005.
  • عمل الدكتور مفوضاً في سوق رأس المال الأردني، ومفوضاً على الترخيص والتفتيش، وتكنولوجيا المعلومات، في هيئة الأوراق المالية خلال الفترة 2003- 2010.
  • تم اختياره في العام 2010 ليشغل منصب مفوض في هيئة مكافحة الفساد، واستقال باختياره في بداية العام 2012، لعدم قناعته بجدوى مكافحة الفساد.
  • للدكتور عبدالرزاق 30 مؤلفاً علمياً، واربعة كتب ورواية سياسية. وصلت مؤلفاته إلى جامعة شيكاغو، وبورصة نيويورك، وهيئة الأوراق المالية الأمريكية. ووصلت روايته (غاردينا) إلى المغرب وربريطانيا، وتلقى عليها كثيراُ من الإعجاب.
  • له كذلك ثلاثة كتب في النظرية الاقتصادية، وكتاب في الرياضيات.
  • حصل على وسام الإستقلال من الدرجة الثانية، لتفانيه في الخدمة العامة.