خمسة وخمسون عاماً على نكسة حزيران 1967, نصف قرن ولا تزال النكسة تتعمق وتضرب الأمة العربية بكل عنف, وتهز يقينيات سياسية وعروبية ووطنية, لدى البائسين والمهزومين من أنظمة ومسؤولين وأفراد, كانت “نكسة”, وتحولت إلى هزيمة, حيث ألقت بظلالها ولم تزل على الوعي الجمعي العربي والبعض الفلسطيني, وأنتجت رؤى ووجهات نظر “خيانة” بأن العدو يمكن التفاهم والتفاوض معه, وأن الأرض يمكن المقايضة عليها “الأرض مقابل السلام” وأن الأمن يمكن تقاسمه مع المحتل, وأن العدو ليس دائماً عدواً, ويمكن الاستفادة من اقتصاده وتكنولوجيته المتطورة, وقدراته الأمنية والعسكرية…إلخ…
لقد أطلق عليها عبد الناصر تعبير “النكسة” لسبب يعيه جيداً ويريده, كان يعي جيداً أنها هزيمة, ولكنه لم يرد أن يجعلها هزيمة في مفاعيلها ونتائجها على أكثر من صعيد, ولم يطلق هذا الوصف جزافاً, ولا محاولة للتقليل من آثارها ونتائجها الميدانية, ولا محاولة لتلطيف وصف الهزيمة, فلم يكن يريد أن تمتد كلمة هزيمة إلى الوعي الجمعي الوطني, ولا يريدها أن تكون هزيمة سياسية لها استحقاقاتها الأمنية والسياسية, ولم يريدها فايروس يتسرب إلى العقل القيادي والوجدان الشعبي المصري والعربي, ولم يشأ أن يعطي العدوان صك استسلام يلتزم بموجبه بشروط الهزيمة, واستحقاقاتها, أراد أن يعطيها صفة النكسة المؤقتة, وأن الأمة العربية ومصر بخير ولكنها تعرضت لانتكاس مؤقت بعد صعود و قوّة…
إن استحقاق النكسة ليس هو استحقاق الهزيمة, فالنكسة تعبير يشي بإمكانية النهوض من الكبوة, وعدم الاستسلام أمام خسارة معركة, بيد أن الهزيمة تتحول إلى عامل نفسي يهدد التماسك والوعي الوطني…
وعليه فإن جمال عبد الناصر لا يريد أن يعترف بالهزيمة, ولا يريد أن يخاطب أمة عربية باستحقاقات الهزيمة, هذه الأمة التي آمن بها وبوحدتها وبنضالاتها, ولكنه اعترف بمسؤوليته الكاملة عنها, وبشجاعة في وضح النهار, وأعلن تنحيه عن الحكم, ونزوله للنضال كأي مواطن, وكان ذلك هو الاختيار بين قبول النكسة, أو قبول الهزيمة, ولم تبخل الجماهير المصرية الهادرة حين أرغمت عبد الناصر على تحمّل مسؤولياته الوطنية وهو على رأس الحكم, وقالت كلمتها التي لم تزل تجلجل في آذان من بقي من جيل عبد الناصر, “حنحـــارب…حنحـــارب”
وهنا فإن تعبير النكسة كان استمرار الحرب بوعي الجماهير, وأما تعبير الهزيمة كان يعني قبول ودخول التسويات, ولاحقاً أتضح تماماً الفرق ما بين النكسة والهزيمة, هو بقاء أو عدم بقاء الموقف الوطني…
إن أطلاق الهزيمة على (5/ حزيران) كان يعني انكسار في الوعي الوطني, ونكوص عن مبادئ ومواقف وغايات الثورة المصرية, فقد أرادها معركة في سياق حرب مستمرة, وهم أرادوها هزيمة له ولمواقفه وتراث ثورته ولنداء عروبته… وقد عبّر عن موقفه الواضح بعدم قبول الهزيمة حين أعلن بأن ما (يؤخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة), وهنا تتجلى الغاية من معنى النكسة في الخطاب الجماهيري وزرع بواعث الأمل وقوة الأيمان…
وأما استحقاق مقاومة النكسة في الممارسة العملية فقد تجلّى بأوضح ما يكون على أكثر من صعيد, فلم يمضِ على النكسة شهران ونصف حتى انعقدت القمة العربية الرابعة في الخرطوم, وكانت نتائجها ما كان يريده عبد الناصر, حيث اعتمد النهج المقاوم في مواجهة الهزيمة, في (ثلاث لاءات) واضحة قاطعة ( لا صلح…ولا تفاوض..ولا اعتراف) كانت صادمة للكيان وللمتخاذلين من العرب…
ولم يتوقف الأمر عند حدود لاءات الخرطوم, إنما امتد الأمر إلى الإعداد والتجهيز والاستعداد للحرب من جديد, لاستعادة آثار العدوان, وقد تجلّى هذا الاستعداد للحرب في إعادة وتنظيم القوات المسلحة المصرية, وإعداد الدولة بكل مؤسساتها مع الجيش والشعب في سياق النهوض من النكسة, وفي هذا السياق كانت حرب الاستنزاف, التي استمرت ثلاث سنوات من عام (1967 – 1970) وهي معارك لم تقل في ضراوتها ومساراتها عن حرب 67, وقد استكملت كافة الخطط والاستعدادات النهائية, حيث وضعت الخطة (جرانيت2) بتوجيه واضح وصريح من عبد الناصر مع قادة القوات المسلحة ليلة (16-17 من مارس1970) بمقر القيادة العامة بمدينة نصر…
وهنا يتجلى المعنى الحقيقي لرفض اصطلاح الهزيمة, ومضمونها, واستحقاقاتها, بل أن اصطلاح النكسة كان رداً على المهزومين…
لقد رحل عبد الناصر وهو في غمرة الاستعداد للمعركة, ومع رحيله بدأ مفهوم الهزيمة يغزو عقول البعض, ويتجراً على استخدام تعبير الهزيمة بدل النكسة, ويدعو إلى التفاوض والتسويات, وقد فتح الرئيس السادات اتوستراد التفاوض مع الإدارات الأمريكية, وأزاح كل الشخصيات والوزراء التي أرادت أن تحافظ على إرث عبد الناصر في رفض استحقاق الهزيمة, ولم يكن أمامه خياراً إلا أن يخوض حرباً تحريكية, لها سقفها, تسمح تحت وقعها ونتائجها بالتفاوض, وعقد التسويات, وهنا استخدمت بسالة وشجاعة وإرادة الجندي المصري وقوداً للوصول إلى الهدف السياسي المضمر, تحت شعار أن (99%) من الحل بيد أمريكا, وعليه لا بد من طرق أبواب الإدارة الأمريكية وفتح أبواب التسوية معها ومع الكيان, فكانت الكيلو (101) وما تبعها من مفاوضات ماروتينية عملانية مقدمة للتفاوض السياسي مع الاحتلال, ولم تمضِ سنوات على حرب أكتوبر حتى تحولت النكسة إلى هزيمة, وتحولت حرب اكتوبر من نصر إلى هزيمة سياسية عميقة المحتوى, وممتدة إلى الأمام بعقود, فكانت كامب ديفيد, وزيارة الكيان والاعتراف بدولته وإقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية معه, بما في ذلك عودة سيناء ولكنها مجردة من السلاح, وهذا هو الجزء الآخر من استحقاق الهزيمة التي كانت “اسرائيل” تسعى إليه في اليوم التالي لنكسة حزيران…
إن خسارة معركة في سياق الحروب ليس أمراً غريباً أو استثنائياً, ولكن الأمر الأكثر غرابة أن تحول الخسارة إلى هزيمة مطلقة, وتعمّق نهجها في العقول والوعي, وتتحول إلى منهج سياسي في التعامل مع قضايا الوطن, من موقع المتخاذل والمستسلم بقدر الهزيمة الأولى…
وهذا ما تم التماسه بعد رحيل عبد ا لناصر, حين بدأت بعض الأقلام تتحدث عن “عودة الوعي” لتوفيق الحكيم وغيره…والدعوة إلى حياد مصر…ومغادرة العروبة…ومصر أولاً…والانفتاح على من كانوا بالأمس هم أعداء مصر والأمة العربية…
إن من كان يريدها نكسة, كان يريدها حدثاً عابراً مؤقتاً, وأما من كان يريدها هزيمة فقد عمّقها, وأحالها إلى منهج تنازلي مستمر…وقبول بكل شروط العدوان والأعداء…