يبدو أن التلميح حيناً والتصريح أحياناً لم يَعُد يُجدي نفعاً مع هذا النظام، فالقدرة على التفاعل مع الأحداث والاستجابة لنبض المواطنين وآلامهم وآمالهم هو سمة من سمات الأنظمة الديمقراطية التي تقر وتعترف بأن الشعب هو أساس شرعيتها وتتصرف على هذا الأساس، أما الابتعاد والانعزال والجمود وفقدان الإحساس تجاه آلام الآخرين أو الرغبة في التجاوب مع مطالب جموع الشعب ومعاناتهم فهي من صفات الأنظمة الديكتاتورية التي تعتبر نفسها فوق الشعب وأرادته ومشاعره وآلامه، بل والأكثر من كل ذلك أنها تعتبر الشعب امتداداً وظلاًّ لها وفي خدمتها وخدمة مصالحها وليس العكس .
لم يستطع الشعب الأردني في تعامله مع النظام أن يميز بين الأمن والاستقرار من جهة، والخنوع والاستسلام من جهة أخرى، وهنا تكمن المشكلة، فالأمن والاستقرار لا يمكن أن يأتيا من خلال مسار الخنوع والاستسلام والاستعداد للقبول باختزال الدولة بأكملها في شخص واحد، تتم مناشدته دائماً لحل هذه المشكلة أو تلك، علماً أن كل شيء هام يجري في البلد، سواء أكان ذلك الشيء سلبياً أم إيجابيا، لا يتم إلا بموافقته وقبوله المباشر أو غير المباشر، العلني أو المكتوم.
ما دام الشعب الأردني يسير في نهج المناشدة كوسيلة وحيدة للمطالبة بالإصلاح في مختلف المجالات، فإن الإصلاح سوف يبقى أمنية، وكل حقوق الأردنيين سوف تتحول بالتالي من حقوق دستورية وقانونية ملزمة وواجبة على الدولة، الى عملية استجداء من خلال المناشدة والمكرمات والأعطيات وغيرها من مسميات بائسة غير دستورية، ولكن لماذا يفعل الأردنيون ذلك؟؟
هنالك خلط واضح في ذهن معظم الأردنيين في حصر تفسير مفهوم الانتماء للوطن بالولاء للنظام ، وهذا الخلط بين مفهومي الانتماء للوطن والولاء للنظام قد يؤدي الى تفسير خاطئ ينفي عن أي معارض للنظام حقه الدستوري في المعارضة السلمية حتى لا يتم التشكيك في انتمائه للوطن، إن هذا الخلط والالتباس قد جعل العديد من الأردنيين البسطاء يعتقدون أن الولاء للنظام هو رديف للانتماء للوطن ، وأن المعارضين للنظام وأعوانه لا ينتمون بالتالي الى هذا الوطن، وقد ساهم النظام وأعوانه و أبواقه في تكريس هذا الفهم الخاطئ على مدى عقود من الزمن مما مهد الطريق لما يعانيه الأردن الآن من مشاكل ومآسي و ساهم في تعزيز نهج الانفراد والتفرد بالسلطة وتفاقمه الذي أخذ منحاه الدستوري الخطير من خلال التعديلات الدستورية الأخيرة.
الشعب الأردني شعب طيب
الشعب الأردني شعب طيب، ولكن الطيبة لا تعني افتقار الأردني الى القدرة على التمييز بين الغث والسمين، مما يعني عدم أحقية أحد مهما كان موقعه للاستهتار به أو بمفاهيمه أو قناعاته أو بكيفية التعامل معه، فالطيبة تعكس أصالة معدن الأردنيين وجوهرهم الكريم ولا تعكس ضحالة في رؤيتهم أو تفكيرهم.
عند الحديث المتكرر بأن الإصلاح في الأردن وسقوطه بالضربة القاضية، لم يدر بخلد أحد أن هذه الضربة القاضية سوف تكون شاملة ومتواصلة إلى حد يجعل من السقوط عملية مستمرة لا قعر لها أو نهاية، فالادعاء الرسمي بالإصلاح السياسي من خلال التحول إلى حياة سياسية حزبية نشطة وغير خاضعة لسطوة الأجهزه الأمنية، كما يجب أن يكون عليه الحال دستورياً، والادعاء المرافق بأن هذا سوف يؤدي إلى برلمانات ديمقراطية وحكومات حزبية نيابية فاعلة، بالرغم من أن هذا الادعاء قد رافقه المطالبة غير المحقة بتعديلات دستورية فورية وسابقة لإقرار القوانين الإصلاحية المقترحة، كل ذلك قد أدى عملياً إلى إلغاء النظام النيابي كما نص عليه الدستور بحجة عدم السماح للحكومات الحزبية بالتأثير على المفاصل الأمنية للبلد، وهذا الأمر يثبت عدم صحة ذلك الادعاء بالإصلاح عندما اتضح للجميع أن العقلية الأمنية هي السائدة والمهيمنة على كل القرارات وستبقى كذلك.
الأحزاب السياسية المطلوبة في ذهن النظام
الأحزاب السياسية المطلوبة في ذهن النظام لترجمة حقبة الإصلاح الموعود هي في الواقع أحزاب مسبقة الصنع برعاية أمنية ولا تختلف عن ما سبقها من أحزاب وسطية إلا في العنوان والاسم، ما ابتدأ يرشح من أحزاب جديدة بقيادات وطواقم تقليدية قديمة قد صدم معظم الأردنيين و أكد للكثيرين بأن الإصلاح هو شعار شكلي وأن الطاقم السياسي القديم الذي أوصل الأردن الى الخراب هو المرشح من قبل الدولة العميقة للاستمرار في إدارة البلد تحت رعاية الأجهزه الأمنية و إن بصورة مُحَسّنة وعناوين جديدة تهدف الى تلميع الشكل والحفاظ على المحتوى كما كان دائماً.
إن هذا المسار يؤكد أن النظام قد اختار اللعب في الوقت الضائع عوضاً عن مجابهة الحقيقة وقيادة مرحلة جدية وجديدة من التغيير الحقيقي الذي يهدف الى إعادة الحياة الى الجسم السياسي الأردني والدفع بجيل جديد من الشباب القادر على مقاومة ورفض ضغوط الدولة العميقة وعلى قيادة المرحلة المقبلة بقوة وشفافية وعلى التصدي للفساد المالي والإداري والسياسي، كوسيلة لتقدم الأردن والحفاظ على مصالحه الوطنية ومستقبل أجياله.
وبخلاف ذلك فإن ما يجابهه الأردن من تحديات خطيرة مثل انهيار الجهاز الإداري و انهيار العملية التعليمية والاقتصاد والاستثمار و تفاقم البطالة واستمرار الفساد المالي والسياسي واستعمال السطوة الأمنية للسيطرة على مختلف نواحي الحياه العامة ، وسطوة القواعد الأجنبية على سيادة الأردن تشير جميعها الى اتجاه واحد يربط استمرار و استفحال تلك المشاكل والتحديات المختلفة بازدياد ضعف الدولة ومؤسساتها والخضوع الرسمي الأردني لإرادة الأجنبي ، والى الحد الذي قد يجعل من المواطن الأردني في نهاية المطاف ضيفاً في بيته ، ومن الدولة الأردنية جسر عبور للآخرين ومصالحهم وعلى رأسهم العدو الإسرائيلي وحلفائه.