قبل إجراء عملية تقييم موضوعية للنهج السياسي للقيادة المتنفذة لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ سبعينات القرن الماضي، لا بد من استخلاص الدروس من تجربة نكبة 1948 ومقارنتها بالأوضاع الراهنة، لنحكم إذا كانت هذه القيادة استفادت من تلك التجربة أم لا.
ويمكننا من واقع القراءة العلمية لتجربة النكبة أن نستخلص ما يلي:
أولاً: أن بريطانيا وأميركا كانتا ولا تزالا دولتين عدوتين لم تغادرا موقعهما الاستعماري، وبالتالي فإن الرهان عليهما لإحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، هو عبث في التكتيك وتدمير لاستراتيجية الكفاح الوطني الفلسطيني التي يجب أن تستند بديهياً إلى تحديد واضح للوحة معسكر الأصدقاء ولوحة معسكر الأعداء، وأنه من الخطأ التعويل على أية مواثيق أو قرارات سياسية مصدرها أو مرجعيتها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الإمبريالية، لأن هذه الأطراف تبنت موضوع قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين وعملت ولا زالت تعمل على تفوقها وإفساح المجال أمامها للتوسع والسيطرة على البلاد العربية.
ثانيًا: أن القوى المحلية الرجعية المرتبطة والتابعة لقوى الاستعمار؛ لعبت دوراً رئيسياً في تنفيذ الوعد وخلق النكبة، وهذه القوى لا تزال تشكل الاحتياطي الرئيسي للاستعمار والصهيونية في تفعيل مفاعيل النكبة، وعلينا أن نستحضر ثورة 1936 التي كانت على وشك تحقيق أهدافها لولا التدخل العربي الرسمي في حينه الذي راهن على صديقته بريطانيا لوقف الهجرة والاستيطان.
ثالثاً: أن الأمم المتحدة ومن خلال الدور الذي لعبه الأمين العام للأمم المتحدة في تلك المرحلة لعبت دوراً أساسياً في صنع النكبة، خاصةً وأنها لم تتابع تنفيذ قراراتها التي تجاوزها العدو عندما رفض تنفيذ قرار التقسيم على سوءته واستولى على 80 في المائة من فلسطين التاريخية وعندما رفض تنفيذ قرار 194.
في الذكرى أل (74) للنكبة ، ومن واقع التجربة الممتدة من مطلع سبعينات القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة ، يمكننا أن نؤكد أن القيادة المتنفذة للمنظمة ،لم تستفد من دروس النكبة ارتباطاً ببنيتها الطبقية وتحالفاتها مع الرجعية العربية، فقيادة المنظمة لا تزال تضع كل البيض مجدداً في سلة الإدارة الأمريكية للوصول إلى حل للقضية الفلسطينية، ونراها تراهن على الرجعية العربية مجدداً، للحصول على دعمها في إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية ، ونراها تراهن مجدداً أيضاً على الأمم المتحدة ،التي لم تنفذ أي من قراراتها المتصلة بالقضية الفلسطينية ، متجاهلةً حقيقة أن قرارات الأمم المتحدة لا قيمة لها إذا لم تكن مسنودةً ببرنامج نضالي تجري ترجمته على أرض الصراع.
في ذكرى النكبة لا بد من مراجعة النهج السياسي لمنظمة التحرير وقيادتها منذ عام 1967 وحتى اللحظة الراهنة لاستخلاص الدروس، بعد أن وصلت المنظمة إلى الحائط المسدود الذي لا يفتح على دحر الاحتلال، ولا على حق العودة، ولا على أبسط الحقوق الوطنية الفلسطينية.
لقد جاءت التجربة الحسية والخبرات الوطنية، منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية في ستينات القرن الماضي، لتؤكد أن ما سمي ببرنامج المشروع الوطني الفلسطيني ممثلاً بديباجة “حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية”، كان مضيعةً للوقت وعلى حساب استراتيجية الكفاح الوطني الفلسطيني ممثلاً بالميثاق القومي وبالميثاق المعدل “الميثاق الوطني الفلسطيني” الذي يؤكد على تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.
أقول مضيعةً للوقت وعلى حساب الاستراتيجية، لأنه في السياق التطبيقي تمت مقايضة الاستراتيجي بالمرحلي، وأصبح المرحلي هو المطروح وغابت التعبئة بالمشروع الاستراتيجي، الذي ضحى من أجله آلاف الشهداء والأسرى والجرحى، وقد هدف هذا الطرح المرحلي الناجم عن الدورة (11) للمجلس الوطني عام 1973، والمبني على تقدير مغلوط ومقصود لنتائج حرب تشرين، وما نجم عنها من اتفاقيتي (سيناء 1 وسيناء 2) الدخول في تسوية مع الكيان الصهيوني على قاعدة الحصول على كيان فلسطيني مقابل الاعتراف بالكيان الصهيوني، مع ضرورة التأكيد على أن اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ولدت من رحم مخرجات حرب تشرين في كل من “اتفاق سيناء 1 واتفاق سيناء 2”.
وعلى أرضية ما سمي ” بالبرنامج المرحلي” فتحت القيادة المتنفذة الباب على مصراعيه للاتصال والتواصل مع مسؤولين وجنرالات صهاينة، ومع قيادات أمنية وسياسية أمريكية وأوصلت رسائل لمستشار الأمن القومي “هنري كيسنجر” تتوسله الحل مقابل تنازلات من الجانب الفلسطيني، ناهيك أنه منذ الدورة (13) للمجلس الوطني، عملت القيادة المتنفذة للمنظمة، على توفير غطاء سياسي لهذه الاتصالات عبر بند “يبيح الاتصال مع القوى اليهودية الديمقراطية”!
والمؤسف والمؤلم حقاً أن المثقفين والكتاب والأدباء الذين انضووا في إطار مؤسسات المنظمة أو انتفعوا من خلالها، التزموا بالخطاب السياسي للمنظمة وببرنامجها السياسي متجاهلين حقيقة أن سقف المثقف الوطني والعضوي، يجب بالضرورة أن يكون أعلى من سقف السياسي، إذ أنهم في غالبيتهم لم يعملوا على التعبئة بقضية التحرير، بل غدوا منظرين للتسوية وللبرنامج المسمى زوراً وبهتاناً بالمرحلي.
وعلى قاعدة هذا البرنامج تعاملت القيادة المتنفذة مع مشروع “فهد” 1981 وإن فشلت في الحصول على قبول مختلف الفصائل به ، لكنها قبلت به مباشرةً بعد خروج المقاومة من بيروت عام 1982 تحت مسمى ” مشروع فاس” الذي يؤكد ضمناً على الاعتراف ب “إسرائيل” مقابل ما سمي بقبول “إسرائيل” بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ثم قفزت باتجاه “مشروع ريجان، وفق رؤية أنه ينطوي على قوة دفع أكثر من مشروع فاس، عندما أصر الراحل عرفات على استخدام صيغة “اللعم” في التعامل مع ذلك المشروع ، وتمرير “اللعم” في برنامج الدورة (16) للمجلس الوطني عام 1983م.
وكرت مسبحة التنازلات في اتفاق عمان في شباط (فبراير) 1986 بعد انقلاب قيادة فتح والمنظمة على اتفاق عدن – الجزائر، حيث نص اتفاق عمان على “مبدأ الأرض مقابل السلام “، الذي أوصلنا إلى المبادرة السياسية الفلسطينية الناجمة عن الدورة 19 للمجلس الوطني عام 1988، التي اعترفت بقرار مجلس الأمن رقم 242 ونزلت دونها في تفاهمات ستوكهولم وفي خطاب أبو عمار في جنيف في ديسمبر (كانون أول).
وهذه المبادرة شكلت المقدمة الطبيعية لاتفاقيات أوسلو المذلة عام 1993، واعتراف الجانب الفلسطيني المتنفذ من خلالها بحق ( إسرائيل) في الوجود وتأكيده على نبذ الإرهاب وعلى ضمان أمن الكيان الصهيوني وفق مبدأ “التنسيق الأمني” مقابل الوعد بالنظر في إقامة دولة فلسطينية عام 1999، ناهيك أنه تم ترحيل القضايا الجوهرية المتعلقة باللاجئين والقدس والاستيطان والمياه إلى مفاوضات ما سمي بالحل النهائي دون إسنادها بأي من قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ناهيك عن قبول قيادة المنظمة بتقسيم الضفة الغربية إلى مناطق “أ ، ب ، ج” وأن تكون السيادة الأمنية والإدارية المطلقة للعدو على المنطقة (ج)التي تشكل 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية وتضم في باطنها أحواض المياه الرئيسية.
وبعد مرور 29 عاماً على اتفاقيات أوسلو المذلة، كانت المحصلة صفراً، لكن في الجانب المقابل شهدنا صحوة فلسطينية مقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، أعادت الاعتبار لنهج المقاومة، ممثلةً بالعمليات الفدائية النوعية في القدس وعموم الضفة الغربية في إطار المراكمة على الانتفاضات السابقة “انتفاضتي الحجارة والأقصى”، وشهدنا الانتصارات التكتيكية التي حققتها فصائل المقاومة في قطاع غزة في مواجهة العدوان الصهيوني في الأعوام 2008 ، 2012 ، 2014 ، 2019 ، وصولاً إلى الملحمة التاريخية في معركة سيف القدس التاريخية في مايو ( أيار) 2021، التي حققت انتصاراً نوعياً على الكيان الصهيوني، ودفعت منظري هذا الكيان الغاصب. إلى طرح السؤال الوجودي لأول مرة منذ نشوئه عام 1948.
هذا التلخيص المكثف للمسار السياسي التسووي لقيادة المنظمة يؤكد بدون أدنى مواربة ما يلي:
1-أن هذه القيادة كانت مندغمه منذ البداية بمشروع التسوية وليس بمشروع التحرير وبدأت بالتخلي عن هذا المشروع منذ عام 1973، وكرست هذا التخلي في اتفاقيات أوسلو وفي شطب كافة بنود الميثاق الوطني الفلسطيني في دورة المجلس الوطني في غزة التي تتحدث عن التحرير والمقاومة، لدرجة أن هذه القيادة شطبت البند الذي ينص “أن وعد بلفور باطل قانونياً”!
2- أن البرنامج السياسي المرحلي الناجم عن الدورة كان هو الجسر الموصل إلى اتفاقيات أوسلو المذلة عام 1993 ومشتقاتها “أوسلو 2، واي ريفر، الخليل، خارطة الطريق، أنابوليس.. الخ”.
3- أن الاعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر القمة العربي عام 1974، وإن كان نتيجة نضالات الشعب الفلسطيني والثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها، إلا أن هذا الاعتراف كان حقاً يراد به باطل من قبل قيادة المنظمة والنظام الرسمي العربي، بهدف توظيفه في السياق التسووي، حيث بتنا نشهد منذ عام 1974 مقولة النظام العربي البائسة: “نقبل ما يقبل به الفلسطينيون”.
4- إن الحديث عن حق العودة في البرنامج السياسي الفلسطيني كان مجرد كلاشيه جرى التخلص منه بعد اتفاقيات أوسلو.
في ضوء ما تقدم وارتباطاً بتطورات البرنامج المقاوم خاصةً بعد معركة سيف القدس التاريخية وتشكيل غرفة العمليات المشاركة، وفي ضوء تبلور محور المقاومة بوصفه عمقاً استراتيجيا للمقاومة الفلسطينية لا بد من التأكيد على ما يلي:
1-ضرورة مغادرة خيار حل الدولة والدولتين خاصةً وأن العدو الصهيوني وبدعم من الامبريالية الأمريكية يرفضان هذا الحل عملياً ويستبدلانه بخيار السلام الاقتصادي.
2- إعادة الاعتبار للاستراتيجية الوطنية الفلسطينية في الميثاق التي تنص على تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، من خلال كل أشكال المقاومة وعلى رأسها الكفاح المسلح.
3- ربط حق العودة بالتحرير، وتوظيف ربطه بالقرار 194 في سياق تكتيكي لإدارة الصراع.
4- التصدي بكل السبل للرواية اليهودية الزائفة في فلسطين لصالح التأكيد على الرواية العربية التاريخية المدعومة بكل الأسانيد التاريخية.
5- التأكيد على أن قضية فلسطين هي قضية الأمة العربية المركزية، وأن الشعب الفلسطيني هو رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوني.
6- والمهمة الملحة والراهنة تكمن في ضرورة تشكيل جبهة وطنية عريضة من كافة الفصائل والقوى الرافضة للحلول التسووية والتي تؤكد على هدف التحرير الكامل، وأن يكون على رأس مهامها إسقاط أوسلو والتنسيق الأمني في الميدان.