بعد أن تم إفراغ خزائن بيت المال الأردني من محتوياتها، وبعد أن تم إجراء عمليات مقاصة شملت الأرض والأجواء والمياه والمصادر الطبيعية الأردنية، وتم اختصار السيادة الوطنية إلى حدودها الدنيا، انتهاء بتطويع وتجويع المواطن الأردني الى حد الركوع والاستسلام الخانع، انتقل مسار الحكم في الأردن الى البحث عن هوية جديدة عوضاً عن الهوية الوطنية التي تم تآكلها وتجاوزها والاستهانة بها في السنوات الأخيرة، والى دور جديد في عالم متغير بشكل متسارع ومستمر.
ماهي الطريقة الأمثل للدولة الأردنية لإعادة تعريف مسارها ودورها العربي والإقليمي والدولي؟ هل يتم ذلك بالطرح أم بالإضافة أم بالسكون؟ ما الذي تريده هذه الدولة وتسعى للوصول اليه بعد أن تم قهر شعبها وتدجينه الى حد الاستسلام والتسليم؟ هل انفراد النظام بالقرار بشكل كامل ودون أي رقابة فاعلة من مؤسسات الدولة الدستورية أمراً في صالح الدولة الأردنية ومستقبلها أم وبالاً عليها سوف تدفع ثمنه غالياً وغالياً جداً؟
الاجابات الممكنة هي للأسف الشديد قليلة مقارنة بالأسئلة الكثيرة. والسبب يعود إلى أن الخيارات المتاحة قليلة أو شبه معدومة. ويبدو أن النظام الأردني وبحكم الغياب الكامل للرقابة على سياساته قد اختار اللجوء الى خيارات مرفوضة شعبياً مثل التمادي في الاستسلام الكامل لأمريكا، وكذلك التمادي في التطبيع الحكومي المعلن والخفي مع اسرائيل بعد أن رفض الشعب الأردني مسارالتطبيع الشعبي. التطبيع الحكومي الأردني مع اسرائيل يجئ بالتالي بارادة النظام في ظل غياب أي دور رقابي أو تنفيذي لمؤسسات الدولة الدستورية . وهذا التطبيع لم يعد محصوراً بالسلوك وبالسياسات، بل تجاوز ذلك الى المشاريع الاستراتيجية المشتركة التي تربط مستقبل الدولة الأردنية بها وبالتالي بإسرائيل مثل مشاريع الطاقة والمياه والمواصلات والصناعة والأمن والتعاون العسكري .
تأثرت سمعة الأردن الخارجية وهيبته ومصداقيته الى حد كبير بتفشي الفساد المالي والى الحد الذي جعل من الأردن بلداً مترنحاً اقتصادياً ومدعاةً لشفقة البعض وتندُّر الآخرين، وسمح للدول المانحة العربية منها وغيرالعربية أن تتصرف بشكل يوحي بعدم الثقة في مآل القروض والمساعدات النقدية للأردن، الأمر الذي استُعْمِلَ في بعض الأحيان كعذر لوقف تلك القروض أوالمساعدات بشكلها النقدي أو تقليصها أو فرض رقابة الدول المانحة على أوجه صرفها . أمر مأساوي يدعو للحزن ويسبب القهر والإحباط للأردنيين كشعب َوهُمْ من كل ذلك الفساد براء. وقد ساهم هذا الوضع في إضعاف موارد الدولة الخارجية وزاد من اعتمادها على نهج الجباية الذي سبب الكثير من المعاناة للأردنيين وجعل معظمهم يعيش تحت خط الفقر، وارتفعت المديونية الخارجية الى أرقام فلكية نتيجة لتمويل الفساد الكبير من جهة، والصرف على دولة شبه مفلسة يرغب القليلون بمساعدتها من جهة أخرى .
شمولية الفساد في الأردن تجاوزت الآن البعد المالي لتشمل البعد الاداري والقانوني والسياسي والتي تم اختراقها جميعاً بواسطة أو تحت عذر أو وطأة العامل الأمني . وهكذا أصبح الفساد هو المظلة التي تغطي كافة أوجه الحياة في الدولة الأردنية . وهنالك بعض المؤسسات العامة التي يشهد جميع المواطنين بفسادها وتسيب الأمور فيها، ومع ذلك لم تقم الحكومة الأردنية باصلاح الاوضاع فيها أو حتى محاولة ذلك . الأمر نفسه ينطبق على بعض الشركات العامة التي تحظى بدعم مالي مستمر من خزينة الدولة رغم أنها شركات عامة ولكنها مرتع للفساد والتسيب بالإضافة الى أن بعضها يقوم بسرقة المواطنين جهاراً من خلال أسعارٍ ورسوم هي أقرب ما تكون الى الأتاوات المفروضة على الشعب، ومع ذلك ما زالت أمثال تلك الشركات تحظى بالدعم الحكومي دون أي محاولة لإصلاحها والحد من الفساد المستشري فيها. وهكذا، فإن الفساد العام في الدولة الأردنية يحظى برعاية الحكم سواء مباشرة أو بطريق غير مباشر . والدولة التي تسعى بكل الطرق الى جباية الأموال من مواطنيها دون أن تقدم لهم بالمقابل ما يحتاجونه بل ويستحقونه من دعم وخدمات وبنية تحتية هي نفس الدولة التي أصبحت رمزاً للفساد ومنارة يَقتدي بها الفاسدين .
بالرغم من توفر الكثير من اللؤم الحكومي في التعامل مع المواطنين وفي دعم اجراآت الجباية الجائرة من الشعب المقهور، إلا أن مسعى الدولة الأردنية الأخير لتجديد شباب الدولة الأردنية لا يخلو من السذاجة من خلال محاولة الادعاء بأن فتح الأبواب أمام أجيال الشباب هي تطور جديد واستثنائي . فهذا المسار ليس أمراً استثنائياً تقوم به الدولة ” لأمر ما في نفس يعقوب”، بل هي عملية مستمرة تتبادلها الاجيال بشكل طبيعي ومستمر، وإلا فَقَد المجتمع حيويته وديناميكيته .
تجديد شباب الدولة لا يكون منحصراً باجراء واحد وهوالاستعانة بالشباب، بل بتجديد شباب مؤسسات الدولة وتحديثها وتفعيلها واخراجها من سيطرة الاجهزة الأمنية ونفوذ رجال النظام والدولة العميقة، واخضاعها للقانون والقانون فقط كاطار ومرجعية لعملها . أن إعادة تشكيل واجهة الدولة لتكون أكثر شبابية حتى تتناسب وعمر وأفكار جيل الشباب هو أمر قد يكون مقبولاً ولكن الى الحدود التي لا تشكل خللاً في حتمية ترابط العلاقة بين الاجيال، وأهمية مبدأ تراكم الخبرة وتداولها بمعزل عن قرارات أو سياسات الحكم الانفعالية منها أوالارتجالية .
إن تغيير العنوان دون المحتوي لا يعني شيئاً ولا يعني بالضرورة أن هنالك تغييراً ما بالرغم من أنه قد يوحي بذلك . الكتل النيابية والمصالح الشخصية أو الجهوية أو العشائرية لا تعني إمكانية تحولها الى حزب سياسي حتى لو حصلت على مثل ذلك التصنيف وذلك العنوان من الجهات الرسمية . أما الحياة السياسية التي تقودها وتشرف عليها الأجهزة الأمنية فإنها لا تعني أن هنالك حياة سياسية حقيقية بقدر ما تعني خضوع واخضاع الحياة السياسية تماماً لإرادة الأجهزة الأمنية وتوجيهاتها . ويبقى السؤال الأساسي فيما إذا كانت الدولة في خدمة الحاكم أم إذا كان الحاكم في خدمة الدولة ؟ والى نصل الى الاجابة الصريحة وبشجاعة وصدق، فإن الأمور سوف تبقى في طي الكتمان أو في ضميرالمستتر، وذلك لا يُشكِّل في الواقع مدخلاً لأي حل أو إصلاح أو رؤية موضوعية جديدة . القبضة الحديدية والانفراد بالسلطة هي بيت الداء وليست دار الدواء . والداء اذا ما استفحل فإن الدولة نفسها تصبح في مهب الريح، والأمثلة على ذلك كثيرة . الرهان على استسلام الشعوب وموت ارادتها لن يفيد، فعندما يصرخ الجوع يفقد العقل رجاحته خصوصاً عندما يفقد الحكم أي حساسية تجاه معاناة الشعب سواء في سعر الوقود، أو الكهرباء، أو الدواء، أو الغرامات الفاحشة الربوية المترتبة للدولة على المواطن الفقير . إن عدم دفع المواطن للضرائب العديدة والكثيرة لي