في ذكرى رحيل الحكيم، وككل يوم وأمام كل حدث، تستحضرنا شخصية الحكيم ومواقفه الجذرية والصلبة والتي لم يحدث وغيّر الزمن أي شيء فيها، على مدى عمره ونضاله الطويل الذي عاشه. ليس صدفة أن يُكنّى بحكيم الثورة وهو الطبيب الذي كانت عيادته في الأردن ملاذًا للفقراء والمحتاجين، ومقرًا للنضال والكفاح هو ورفيق دربه وديع حداد. ليستبدل مشرط الجراح بالبندقية والعمل الثوري، وهو الذي أدرك مبكرًا ومنذ أن كان طالبًا أهمية النضال الوطني والقومي تحديدًا فكان من مؤسسي حركة القوميين العرب وفرعها الفلسطيني في الخمسينيات من القرن الماضي، والذي أدرك بعد هزيمة العام 1967 أن لابدّ من التحول إلى الكفاح المسلح كطريق أساسي ومركزي لتحرير فلسطين عبر الحرب الشعبية طويلة المدى وهو القائل “معركتنا مع العدو الصهيونية قد تمتد إلى مائة عام فعلى قصيري النفس التنحي جانبًا”.
اليوم يحضرنا الحكيم في ظل انسداد أفق النضال الوطني المثخن بالانقسام بين طرفي السلطة، واستباحة غير مسبوقة من قبل العدو الصهيوني للوجود لفلسطيني معززًا بانهيار رسمي عربي مُعلن نحو التطبيع مع هذا الكيان.
أما الأهم أننا نعيش في غياب بوصلة وطنية وأخلاقية في التعامل مع الكلّ الفلسطيني على قاعدة أن الصراع الأساس هو مع الاحتلال وما دون ذلك فهو ثانوي، هذه القاعدة التي سار عليها الحكيم وحزبه الماركسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهو المؤسس والأمين العام لها.
لا مجاملة ولا عملية تملّق يحتاجها الحكيم اليوم، بقدر ما هو الإحساس بالفراغ الحقيقي الذي تركه غيابه على بوصلة الوحدة الوطنية، وعلى آليات التعامل الأخلاقي مع الصراعات الداخلية الفلسطينية وهي كثيرة، صراعات كان الحكيم ينحاز دومًا للوحدة حتى لو كان على حساب حزبه ورفاقه، بالنهاية كان يرى أن مبرر وجودهم كرفاق وحزب هو لخدمة القضية الوطنية وحماية الثورة وبقائها. وهذا بالضبط اليوم ما نفتقده في ظل ما أحدثته أوسلو وزبانيّتها من شرخ وتدمير ومسح لكل ما هو وطني وأخلاقي واستبدلته بالتنسيق الأمني والانقسام والفساد المالي والإداري وانهيار وطني، حيث استبدلت قاعدة الحكيم “الصراع الأساسي مع العدو” إلى الصراع الأساس مع طرفيّ الانقسام فيما العدو هو الجار والآخر الذي يحفظ أمنه على حساب أمن شعبه.
في ذكراه، ليس بحاجة لشهادة منا بقدر ما نحن بحاجة أن نكون جزءًا من تاريخه، ونضاله، كم مهم لنا اليوم ونحن نحاول استعادة بوصلة النضال والمقاومة وننظر بترقب وأمل لانتصار المقاومة وخروج سوريا والعراق ولبنان واليمن منتصرين، وهزيمة المثلث المعادي “الأمريكي، الصهيوني، والرجعي العربي” وهي قاعدة أخرى سار عليها الحكيم، ننتظر هذا الانتصار كي نعيد العجلة على الطريق التي خطها الحكيم على مدى عمره ونضاله الطويل، وهو الذي بقي متفائلًا بحدوث التغيير حتى آخر أيامه عندما فتحت الجماهير في قطاع غزة بوابة الحدود مع مصر من الجانب الفلسطيني، وكأنه يؤكد ما قاله رفيقه الشهيد كنفاني “إن البوابة يجب أن تفتح من هذا الاتجاه”، نعم نحن نحتاج ونعتز أن نكون جزءًا من تاريخ الحكيم.
عندما نستذكره لا لنذكره، بل لنذّكر أنفسنا كم فقدنا في هذه المسيرة من قيادات ومناضلين شكلوا حالة مميزة وأضافوا للنضال أكثر مما أضاف النضال لهم، قيادات تتقدم المسير فيتبع الرفاق والرفيقات، قيادة تعيش حياتها الشخصية واليومية والحياتية نموذجًا تعلمنا منه كيف نتواضع ونتعاضد، ونتصالح ونتكاثف في الأزمات، وأن الحزب هو الطريق أما الهدف تحرير فلسطين والوطن، علمنا كيف نكون نموذجًا طليعيًا دون الحاجة لتثقيف من أدبيات ثورية وماركسية، فالحكيم كان نموذجًا حيًا ماثلًا أمامنا، مدرسة ثورية وتربوية، قليلون من مروا على خارطة النضالات الثورية والتحررية امتلكوها. والحكيم سيظل في التاريخ الفلسطيني من القيادة التي قد “نختلف معها ولا نختلف عليها”.
أخيرًا، وفي زاوية خاصة ولجيلي من الرفاق والرفيقات في فلسطين الذي وعي النضال مبكرًا على صوت الحكيم يأتي عبر شرائط كاسيت مهربة تحمل خطاباته في ذكرى الانطلاقات، وظلت وقع كلماته “ثوروا فلن تخسروا سوى القيد والخيمة” تخط طريقنا في النضال والحزب وفي السجون وكل المواقع، ظل الحكيم أداة تحشيد لي مستمرة إلى الآن، في العام 1989 وعندما كتب مقدمة الهدف في ذكرى رفيقه الشهيد كنفاني “اليوم يا غسان نعيش أيام سهى بشارة ورلى، أولئك الصبايا الرائعات، واللواتي أنجبتهم لنا أم سعد” وكنت في السجن، شعرت كأن الزنزانة ورغم ضيقها فهي الخندق الذي لن نغادره إلا منتصرين… وعندما جاء صوته وللمرة الأولى مباشرًا عبر الهاتف عندما تحررت وبلهجة أقرب إلى الأب منه إلى الأمين العام فرحًا بتحرري من الأسر، وبتواضع وحب شديد قال: “يا رفيقة انتوا الأسرى عنوان نضالنا…” حينها شعرت كأن سنوات السجن الطويل لم تكن.
بقيت أمنية واحدة أن أسافر ليس حبًا بالسفر ولكن كي التقيه، بالنهاية بيننا نهر ونحن على ضفتيه بين رام الله وعمّان، ولأقول له مباشرة كم شكل نقطة فارقة ونموذجًا ليس في نضالنا ونشاطنا، ولكن في صمودنا وشحن إرادتنا أن لا نضعف أو نتراجع وأن تحرير فلسطين هي البوصلة والهدف والخيار النهائي. ولأن الاحتلال ما زال جاثمًا فلا هو عاد لأنه لن يعود إلا مع آخر لاجئ كما قال وكجزء من عمق وأخلاقية ثوريته، ولا أنا استطعت الخروج نتيجة المنع الأمني.
رحل الحكيم ولم التقِ به، لم يعد مهمًا الآن أن أسافر وأقطع النهر للضفة الشرقية، فلم يعد لي هناك من أزوره.
قد لا يكون ما كتبته إضافة جديدة، ولكن هي كلمات وفاء لقائد ومعلم ونموذج ثوري وأخلاقي لا يعوّض.
حكيمنا، لروحك السلام، وعلى دربك سائرون.