عن أي تطبيع تتحدثون؟! .. لا يوجد تطبيع .. بل إخضاع للهيمنة “الإسرائيلية”!!

د.موسى العزب
12 دقيقة وقت القراءة
مناهضة التطبيع

بُعيد التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993، أصدر عراب ومهندس تلك الاتفاقية -المنتشي بإنجازه- شيمعون بيريز، كتابه الشهير: «الشرق الأوسط الجديد»، وقد ضمّن كتابه خلاصة الرؤى السياسية لحزب العمل «الإسرائيلي» في ذلك الوقت، حيث روج بيريز لنظريته بأن شرقا أوسطيا جديدا، آخذا بالتشكل، وأن «إسرائيل» يجب أن تكون جزءاً محورياً ومقررا في هذا النظام الإقليمي الناشئ.

هذا أمر لم يعجب عتاة اليمين الصهيوني في حينه، واتهموا بيريز بالتخلي عن الحق التوراتي الرباني، وأطماعهم “بإسرائيل الكبرى”، إلا أن توقيع معاهدة وادي عربة في العام 1994، قد جاء ليضخ دماءً في هذا المشروع، ويفتح الشهية أمام الأطماع الصهيونية.

على مدى ثلاثة عقود، وبدعم الولايات المتحدة الامريكية حققت “إسرائيل” اختراقات مهمة على مستوى المنطقة عبر المسار المتعدد الأطراف للتعاون الإقليمي الذي نشأ عن مؤتمر مدريد عام 1990، حيث تم إنشاء فرق عمل متعددة الأطراف (تتألف من ممثلين عن الدول العربية ما عدا سورية ولبنان اللتين رفضتا الاشتراك) تتناول الجوانب الإقليمية للتنمية الاقتصادية، وقضايا اللاجئين والمياه والأمن والبيئة. وقد اجتمعت هذه الفرق مرة كل ستة أشهر على مدى أكثر من 29 عاما، وحتى الآن ترفض الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، الاتفاق على تعريف من هو اللاجئ!!

في عام 1994 حاولت الولايات المتحدة الامريكية الالتفاف حول المسار المتعدد الأطراف، ودعت إلى عقد مؤتمر قمة اقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الدار البيضاء في تشرين الأول 1994، ضم رؤساء الدول والمسؤولين الحكوميين والأكاديميين ورجال الاعمال من معظم بلدان الشرق الأوسط، وجميع البلدان الصناعية، بالإضافة إلى عدد كبير من الدول الأخرى، وقد عقدت القمة الاقتصادية بعد ذلك ثلاثة مؤتمرات؛ في عمان 1995، وفي القاهرة 1996، وفي قطر 1997، لتسريع عمليات التطبيع.

ومع المتغيرات المتلاحقة التي مرت على المنطقة، وكذا على الصعيد الدولي، تبنى اليمين الصهيوني نظرية بيريز مع بعض التعديلات الشكلية التي لا تمس بجوهر المشروع ومضمونه التوسعي الاستيطاني الاستعماري.

وقد جاءت اتفاقية بيع الغاز الفلسطيني المنهوب إلى الأردن، لتشكل قفزة خطيرة في هذا المسار، وما حصل قبلها وبعدها من خطوات تطبيع واتفاقيات سياسية واقتصادية وأمنية بين بعض الأنظمة العربية والعدو الصهيوني، أتت لتشرع باب التطبيع التفريطي أمام التوسع الصهيوني، وتُحيي مخططات الهيمنة والسيطرة، وأحلام “إسرائيل الكبرى”.

 وهكذا جاء مشروع “الماء مُقابل الكهرباء” الثلاثي؛ الأردني الإماراتي “الإسرائيلي” بإشراف أمريكي، عن طريق توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية على الأراضي الأردنية لصالح “إسرائيل”، مقابل تحلية الأخيرة للمياه وبيعها للأردن، ليشكل في الواقع خطوة عملية واسعة في إطار تطبيق “صفقة القرن”، والاستراتيجية الاقتصادية الصهيونية.

 نجد بأن هناك عاملان أساسيان يؤثران في مستقبل العلاقة الاقتصادية بين “إسرائيل” وأي بلد عربي وهما؛

 حجم الاقتصاد “الإسرائيلي” مقارنة بحجم اقتصاد البلد العربي المعني، وأهداف “إسرائيل” الصهيونية المرصودة لهذا البلد أو ذاك. وغياب استراتيجية عربية موحدة للتعامل مع “إسرائيل” سواء كان ذلك على الصعد السياسية أو الاقتصادية، وهذا يسبب خللا كبيرا في ميزان القوى، ويفرض تفاوتا واختلافا في مستقبل العلاقات.

 وعندما نأخذ على وجه الخصوص، مستقبل العلاقات الاقتصادية بين “إسرائيل” من جانب، والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة من جانب آخر. ونراجع الكثير من التأثيرات الإيجابية المزعومة لمعاهدة وادي عربة للعام 1994، واتفاق أوسلو الذي سبقها بعام، نتساءل أين هي هذه الفوائد التي سيجنيها الاقتصاد الأردني والفلسطيني من العلاقات مع “إسرائيل”، في حين أن ما نراه هو نفع بالكامل للاقتصاد “الإسرائيلي” على حساب الطرفين الشقيقين.

لقد تم تكريس تبادل تجاري تقوم بموجبه “إسرائيل”، بتصدير المنتوجات الصناعية ذات التكنولوجيا العالية، وتستورد المنتوجات الصناعية والزراعية التي لا تحتاج لتكنولوجيا متقدمة أو مهارات بشرية خاصة، وذلك لأن التقدم “الإسرائيلي” الصناعي والتكنولوجي قد كرس وجود منشآت صناعية كبيرة قادرة على الإنتاج بتكلفه أقل من المنشآت الأردنية والفلسطينية الصغيرة، وذلك وفق مفهوم وفورات الحجم، وفرص “إسرائيل” الوفيرة على التصدير.

 (من ناحية الحجم، نرى أن حجم الاقتصاد “الإسرائيلي” يعادل حوالي 11 ضعفا حجم الاقتصاد الأردني والفلسطيني مجتمعين).

 هذا النمط من التبادل التجاري مضر بعملية النمو للطرف العربي، على أساس أنه يكرس تخصص الاقتصاد العربي (الأردني والفلسطيني) بنشاطات اقتصادية تابعة للاقتصاد الصهيوني، وليس لها مستقبل في التنمية المستدامة، فيما يتخصص الاقتصاد “الإسرائيلي” بالصناعات ذات إمكانيات النمو العالية.

وضمن هذه المعادلة، يتوجه الاستثمار الأجنبي لدعم وتعزيز ذلك النمط من التخصص على أساس أن كل الصناعات التي تحتاج لمهارات بشرية عالية وتطبيقات علمية وتكنولوجية متقدمة في “إسرائيل”، سيكون من نصيبها حيازة الاستثمار الأكبر، حيث يتمكن الكيان من بيع سلعه في فلسطين والأردن ومنها إلى المجال العربي، دون تكلفة نقل هامة بحكم قصر المسافات، أما الصناعات التي تعتمد على اليد العاملة الرخيصة  يكون توجهها الاستثمار في الأردن وفلسطين ،وهذا ما حصل بالفعل منذ بدء ما تسمى ب”العملية السلمية”.

وكما يحصل الآن، حيث تستثمر الإمارات في إنشاء محطة توليد للطاقة الكهربائية في الأردن، ومحطة تحلية مياه البحر في “إسرائيل”.. ويقدر العمر الافتراضي لمحطات توليد الطاقة الكهربائية بالألواح الشمسية، بحوالي عشرين عاما، علاوة على ما تتركه من نفايات تتسبب في أضرار بيئية كبرى في بعض مراحل تشغيلها.. بينما تعتبر محطات تحلية المياه بواسطة الطاقة الكهربائية، استثمارا طويل الأمد وتنمية مستدامة، وتوليد مستويات تقنية وبشرية عليا.

كما أن الالتزام الأيديولوجي الصهيوني في الاقتصاد، مبني على أساس دعم كامل للإنتاج “الإسرائيلي”، وعدم السماح بوجود سوق حرة يتم فيها التبادل التجاري حسب قوانين المنافسة والكفاءة الاقتصادية.

وقد أظهرت إحدى دراسات الأمم المتحدة عن الاقتصاد في الضفة والقطاع، أن أكثر من نصف ما يستورده الفلسطينيون من “إسرائيل” يمكن انتاجه محليا لو كانت هناك منافسة حرة بين الطرفين، وهذا بالطبع يعود إلى أن كل الإنتاج “الإسرائيلي” مدعوم ومحمي ويستطيع التفوق على الإنتاج الأردني والفلسطيني، وحتى أن سلع البلدين التي يفترض بأنها  قادرة على المنافسة، مُنعت من دخول أسواق الكيان، بذرائع عديدة مثل الاعتبارات الصحة، وعدم مطابقة المقاييس.

ومنذ توقيع الاتفاقية الاقتصادية بين الطرفين، والحكومات الأردنية تشتكى من أن “إسرائيل” لا تقوم بالسماح للصادرات الأردنية من دخول الضفة الغربية وغزة بحرية، أو داخل الكيان، عكس ما تفتضيه الاتفاقيات بين الطرفين.

والمفارقة أن الشكاوى الأردنية ما هي في الواقع إلا صدى لشكاوى مماثلة رددها أهل الضفة والقطاع طوال الخمسة والثلاثين سنة الماضية.

من ناحية أخرى، فإننا نلاحظ (وفق تقارير صحفية) أن العمل على انشاء شركات مشتركة، أو مصانع على الأراضي الأردنية قد قطع بعض الخطوات، ولكن ذلك لم يراكم أي فائدة للأردن، وبقي -بسبب مجموعة من العوامل- ضمن إطار التجاذبات والضبابية، ولم يعمل على تكريس علاقات اقتصادية نافعة للأردن. وعلى المدى البعيد، عمل فعليا على تعميق تبعية الاقتصاد الأردني والفلسطيني للاقتصاد “الإسرائيلي”.

إن نوعية العلاقة الاقتصادية بين الجانب العربي والصهيوني، لا تتحدد في المجال السياسي ورغبات الحكومات العربية، بل تحددها طبيعة التركيب الاقتصادي للمجتمع “الإسرائيلي” الذي تتحكم في تركيبته البنيوية، الأولويات الصهيونية وملكية الأرض العامة، ورأس المال المتأتي بنسبة كبيرة من المساعدات الخارجية، بينما كل “المزارع التعاونية” مملوكة لأحزاب وقوى سياسية صهيونية.

كذلك فإن هناك أوضاع وأنظمة خاصة محددة لطبيعة إدارة صناديق التوفير وصناديق مدخرات التقاعد والمؤسسات التعليمية والصحية.. كلها تعبر عن طابع سياسي خاص، وذي أولويات صهيونية، ولهذا فإن التركيب البنيوي للاقتصاد “الإسرائيلي” يفرض قيام علاقات استعمارية مع الاقتصاد الأردني والفلسطيني، وهذه العلاقات يراد لها أن تتم بشكل عادي وقدر الإمكان بعيدا عن الهيئات التشريعية ورأي الشارع، وبقرارات حكومية ملتبسة، وذلك لضمان إبقاء الأراضي الأردنية والفلسطينية مناطق “رخوة” صالحة للتوسع الصهيوني الجغرافي والبشري بشكل تدريجي مدروس.

هذا الوضع لا يتغير مع تغير الائتلاف الحاكم في “إسرائيل”، كما أنه يتم بصورة تلقائية ولا يحتاج لخطة تنتهجها الحكومة في “إسرائيل”، وحسب ما يقول أحد الباحثين الجادين في موضوع الصهيونية و”إسرائيل”: “الصهيونية لا تحتاج لخطة، الصهيونية هي الخطة”.

إذا استثنينا سورية ولبنان لأسباب مختلفة، فإن مستقبل العلاقات الاقتصادية بين “إسرائيل” والبلدان العربية التي توقع على معاهدة سلام معها، سيقوم على العلاقات الاقتصادية يدعمه ويعززه تواجد سياسي لصيق.

لقد خطت إسرائيل خطوات مهمة في هذا الطريق، وإلى وقت قريب، وبالرغم من أن مصر والأردن هما البلدان العربيان الوحيدان اللذان كانا قد وقعا اتفاقيات ومعاهدات سلام مع إسرائيل، فإن بلدان عربية أخرى مثل الإمارات والبحرين قد وقعا اتفاقيات متنوعة، وقد تبعتهما المغرب بتوقيع اتفاقيات أمنية خطيرة جدا تهدد الأمن القومي العربي، كما أن “إسرائيل” قد تمكنت من إقامة علاقات اقتصادية مع بلدان أخرى دون توقيع معاهدات معلنة، إلى جانب إقامة علاقات اقتصادية رسمية مع عدد من بلدان عربية في الخليج، وشمال العراق، وذلك على مستوى مكاتب تمثيل تهتم في المقام الأول باستكشاف فرص التبادل التجاري، والأمني، والاستثمار وغير ذلك من فرص النشاط الاقتصادي.

ويتضح الآن بأن أهم هدف من كل هذه الخطوات، هو دمج “إسرائيل” بالمنطقة وتمكينها من إقامة علاقات ثنائية مع الدول العربية، وتحقيق تواجد فعال على الصعيد الإقليمي، ومن الجلي أن المستفيدين الرئيسيين هما “إسرائيل” والولايات المتحدة. حيث تحاول “إسرائيل” استغلال كونها البلد الوحيد في المنطقة الذي تربطه اتفاقات استثنائية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي، لفرض نفسها كمركز متفرد يتم من خلاله دمج اقتصاد المنطقة بالأسواق العالمية.

بالإضافة للأبعاد السياسية والأمنية الخطيرة، وعلى رأسها أخطار تصفية القضية الفلسطينية، فإن تطبيع العلاقات العربية – “الإسرائيلية” في المجالات الاقتصادية سيقود إلى زيادة الموارد الاقتصادية المتاحة لإسرائيل بشكل هام جدا، وإلى زيادة ضئيلة وثانوية بالنسبة للبلاد العربية، وأن التطبيع الاقتصادي مع “إسرائيل لن يؤدي إلى زيادة معدلات الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية العربية، بل على العكس فإنه سيقود إلى خلق تشويهات وانحرافات واختناقات تلحق ضررا كبيرا في عملية التنمية وتحرفها عن الطريق السليم، يصبح من خلالها الاقتصادان الأردني والفلسطيني تابعين للاقتصاد الإسرائيلي وفق التبعية الاستعمارية الكلاسيكية.

كما أن العلاقات المستقبلية بين “إسرائيل” وبقية بلدان العالم العربي في إطار التطبيع الاقتصادي ستأخذ نمط علاقات استعمارية غير مباشرة، أي نشوء علاقات اقتصادية على نمط علاقات شمال – جنوب، تتحول “إسرائيل” من خلال ذلك إلى مركز إقليمي للاتصالات والتبادلات المالية والتجارية مع أوروبا وأمريكا، وبشكل يتم فيه دمج اقتصاد الشرق الأوسط بالاقتصاد العالمي على نمط المركز “إسرائيل”، والعرب هم الأطراف!!

اتفاق “نوايا” الكهرباء مقابل الماء، يشكل خطرا حقيقيا على مستقبل الأردن وفلسطين، ويؤكد على الرباط الوثيق بين النضال الوطني الأردني والفلسطيني.

شارك المقال
متابعة
  • الدكتور موسى محمد عبد السلام العزب
  • * مواليد عمان/ في 2 أيار 1951.
  • * حاصل على شهادة البكالوريوس في الطب من جامعة وهران/ الجزائر في العام 1978.
  • * عمل في المستشفيات والمراكز الطبية للهلال الأحمر الفلسطيني في سورية ولبنان، حتى العام 1982.
  • * حاصل على شهادة التخصص العليا في أمراض النساء والتوليد من الجامعات الفرنسية عام 1986.
  • * عمل طبيباً إختصاصياً لأمراض النساء والتوليد في مستشفى الهلال الأحمر الأردني لمدة 25 عاما، وعيادة خاصة حتى اليوم.
  • * عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني.
  • * منسق الحملة الوطنية، "صحتنا حق".
  • * ناشط إجتماعي ونقابي وسياسي وإعلامي، لمدة تمتد لأربعة عقود.