من الممكن القول بأن العالم الحر لم يكن يوما حرا سوى للمال وأن اي قضية تحرر ستواجه بالضرورة هذا العالم، فكيف تطلب وتستجدي من منظومة عالمية متواطئة في احتلالك إنصافك!!
فلسطين لم تكن يوما قضية ترف واستجداء، بل كانت قضية تحرر ووجود انساني عالمي، وتحليلها وتنظيرها وتسميتها والعمل عليها إن لم يكن مُسقط على قاعدة الصراع ويتشكل بثوابت مقاومة المستعمر فهو نفخ في قربة فارغة بدون جدوى مهما طال.
استطاعت الثورة الفلسطينية ان تثبت هويتها وحقها في محاربة الاحتلال بكل الأشكال والسبل المتاحة وغير المتاحة منها فكانت شعارات تنطلق بأن هذه الثورة قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن واستطاعت حقا ان تنتصر في العديد من المعارك في مواجهة الاحتلال ولولا هذه الانتصارات التي هي من الممكن ان تكون غير ملموسة بشكل مباشر، لكن تراكماتها اسقطت العديد من المشاريع (مشروع التوطين واسقاط الهوية الفلسطينية، مشروع روابط القرى، مشروع غزة اريحا، مشروع الكونفدرالية، مشروع الأسرلة.. الخ) لولا هذه الانتصارات لما كانت القضية الفلسطينية هي اليوم جوهر صراعات المنطقة و العالم ، لكن حفنة مدعي النضال من اصحاب المكاتب و البيزنس الذين يعتلون مراكزهم الحساسة جدا اسقطوا انفسهم و أسقطوا هذه الثورة العظيمة في تيه المفاوضات و العبثية مدعين بأنهم مدركين لمصالح الشعب الفلسطيني و مستندين لمعارف و مقاربات هلامية غير منطقية و بعيدة التشبيه في الظرف الموضوعي و الذاتي ، طبقة طفيلية تعتاش على ما سمي بالسلطة ، يرون و ينظرون لمستقبل يكون في التفاوض بذاته هو عنوان المرحلة و بدون أي افق لحل واضح لأنهم و ببساطة جزء من المشكلة و ليسوا بالتأكيد جزء من الحل.
هؤلاء نجوا -وليس مصادفة- من حروب عديدة ومن حصارات عديدة ولم يحاول العدو يوما اغتيالهم! ولم يتشرفوا يوما بإدراج اسم اي منهم على قوائم المطلوبين للاحتلال، لأنهم يعملون ما يريده منهم الاحتلال؛ هل يعوا ذلك؟؟ لا أدري، لكنهم بالتأكيد يعوا بأنهم لم يحققوا سوى الفشل.
نهج كان يُستشرف من كتاب لمحمود عباس صادر في العام ١٩٧٤ ينظر فيه لحل سلمي يمكن “الشعبين” الفلسطيني و “الاسرائيلي” من العيش بسلام بجانب بعضهم البعض و يدعي فيه بأن الثورة الفلسطينية قامت لتحقيق السلام و لم يذكر اي تفصيل عن طرد المستعمر وتراكمات عديدة كانت تمهيدا لمرحلة يكون فيها الرئيس الفلسطيني على منبر الامم المتحدة و لا أحد يأبه لخطابه ، لنستذكر وقتا كانت قضية فلسطين قضية أحرار العالم و عندما تحدث عرفات على هذا المنبر كانت كل إذاعات العالم تنقله مباشرة، خطاب بعيد جدا عن واقع المرحلة و لا ينوه عن اي اهداف مرحلية او استراتيجية للفلسطينيين، بل على العكس يستجدي فيه تعاطف دولي هو بالأساس في معظمه تعاطفا شعبيا لا يرقى لأي مستوى رسمي ، فهذا “المجتمع الدولي” لن يحترم ضعفك ، بل سينهش فيك لتحقيق مصالحه و سيستمر في نهشك ما دمت ضعيفا.
ان هذا المجتمع سيعطيك ما تريد حين تصنع نصرك بيدك وتستعد لكل ما سيواجهك بتحصين ذاتك من الهزيمة وتصنع ظرفا موضوعيا يتناسب مع ذاتك وحقيقتك وتطور هذه الذات بأدواتك الثورية المستندة للحقيقة الثابتة؛ الجماهير، وحينها وفقط حينها ستنتصر.
انفصام في تصرف السلطة الفلسطينية يظهر من جانبين؛ خارجيا يُظهر مظلوميته وكم هو وحيدا في العمل ضد مشاريع الاستيطان والاحتلال، وبالمقابل لا يخطو أي خطوة لعمل جبهوي ضد هذه المشاريع، فيخاطب السعودية والامارات ليكونوا حواضن دولية لخطابه! ويتناسى كل الدول المشتركة معه بعدائه للكيان ولإمبريالية عالمية حاضنة لهذا الكيان.
ومن جانب آخر – داخليا- تعتقل السلطة معارضيها وتمارس سلطة كولونيالية عليهم (كفصائل) في اجتماعات اللجنة التنفيذية ويصل الحد بها أن تغتال هذه السلطة معارضيها في الضفة! أي عقلية هذه التي ستحرر فلسطين.
النشاط السياسي في المجتمع هو الذي يحدد ويبلور آليات ونظريات تطوير هذا المجتمع، فما إذا كان هذا النشاط السياسي لمجتمع تحت الاحتلال، فالضرورة ان يكون نشاطه السياسي نشاط مقاول للاحتلال وأي تثبيط او عزل او مواجهة لهذا النشاط تدخل حيز الخيانة.
ترى السلطة و الاحتلال بأن الأولى في الحقيقة غير قادرة على الحكم و السيطرة بنفس الاساليب القديمة ، و لكن في الحقيقة الوضع الاجتماعي و الاقتصادي الفلسطيني في الضفة ليس بالنضج الكافي لثورة على هذه السلطة و العامل الوحيد القادر على إنضاج هذه الثورة هو النشاط السياسي في الضفة ، فتعمل السلطة على جبهتين لإجهاض هذا النشاط ، الجبهة الأولى تتمثل بالتنسيق الامني مع الاحتلال ، فأي فعل مقاول في الضفة هو قيد هذا التنسيق ، فأي فعل مقاوم في الضفة هو ضحية هذا التنسيق حتى لو تحقق ، و الجبهة الثانية هي عملية إخصاء للنشاط السياسي في الضفة من خلال احتواء المعارضة الانتهازية بالمناصب تضييقات امنية على المعارضين و خلق أجواء من شراء الذمم في القرى تحديدا و إن لم ينفع ذلك كله فالسجون موجودة.
وفي جانب آخر من التنسيق تعمل السلطة مع الاحتلال على جعل الضفة كنتون كبير من العمال للعمل في “اسرائيل” وبأجور مرتفعة مقارنة بالأجور في الضفة -التي تعاني من البطالة- فتخلق واقع اجتماعي ينبذ العمل المُقاوم من قاعدة الضرر على أولئك العاملين في الداخل الفلسطيني المُحتل والاحتلال كذلك يستوعب هذه الطاقات التي من الممكن أن توظَّف في العمل المقاوم ويستهلكها لخدمته وازدهاره. وبالرغم من ذلك كله، سيجد المتابع للوضع الفلسطيني بأن هذا الشعب حي ومقاوم للضرورة، فما دام الاحتلال قائم فالمقاومة قائمة وتتطور بأدواتها المتاحة وغير المتاحة ولن يجد شعبنا طريقا لحريته سوا طريق المقاومة وهو مدركا لذلك؛ فكل يوم من عمر هذا النضال ستدهش مما يقوم به شعبنا الفلسطيني البطل، كسروا القيد من أعتى معتقلات العالم واستنشقوا الحرية، كسروا البندقية وأصابوا القناص في عين.