المتابعة الدقيقة للوضع المقاوم في فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر ومن رأس الناقورة وحتى رفح الفلسطينية، يخرج باستخلاص رئيسي أن الشعب الفلسطيني لم يكل ولم يمل في مقاومته الباسلة ضد الاحتلال الصهيوني، وأنه يملك مخزونا نضاليا لا ينضب يؤهله لأن يستمر في مقاومته حتى دحر الاحتلال.
ولعل إلقاء نظرة على طبيعة المواجهات بين قوات الاحتلال وأبناء شعبنا في بعدي الاشتباك الجماهيري والمسلح تؤكد هذا الاستنتاج ، وهذا ما رأيناه في بلدة بيتا وفي مخيمات جنين وبلاطة وقلندية مؤخراً وبقية المدن والمخيمات والبلدات الفلسطينية، إذ ما تلبث قوات الاحتلال أن تدخل هذا المخيم أو ذاك بذريعة اعتقال مقاومين حتى تهرع جماهير شعبنا لمواجهة قوات الاحتلال والاشتباك معها بالحجارة وقنابل المولوتوف، في حين ترد قوات الاحتلال على الزخم الجماهيري المقاوم بإطلاق الرصاص وعدم الاكتفاء بإلقاء قنابل الغاز والرصاص المطاطي، ما أدى إلى ارتقاء شهيدين في كل من مخيم بلاطة وقلندية في الرابع عشر من شهر آذار الجاري.
تطوران نضاليان
واللافت للنظر حدوث تطورين جديدين وهما:
التطور الأول ممثلاً بظهور المقاومين بأسلحتهم الخفيفة ومواجهتهم لجنود الاحتلال والاشتباك معهم في مختلف المخيمات والقرى، كما حدث ويحدث بشكل متكرر في مخيم وبلدات محافظة جنين وبقية قرى ومدن ومخيمات الضفة، ما قض مضاجع الاحتلال وبات يحسب ألف حساب لدخوله أي تجمع فلسطيني، من حيث الخسائر البشرية التي تقع في صفوفه بعد أن وصل إلى خلاصة مفادها: أن فصائل المقاومة الفلسطينية أعادت بناء وترتيب حضورها في الضفة الفلسطينية، وأن فعالية المقاومة العسكرية لم تعد تقتصر على العمليات الفردية على أهميتها، وأن زخم المقاومة في الضفة بات يتكامل مع زخمها في القطاع، إذ لا يكاد يمر يوم دون أن تشهد الضفة اشتباكات مسلحة مع قوات الاحتلال.
والتطور الآخر في أن الأهل في مناطق 1948 باتوا يبحثون عن وسائل جديدة في مقاومة مصادرة العدو الصهيوني لأراضيهم ، تقترب من الجانب العنفي، وجاءت الهبة الجماهيرية العربية في مواجهة إجراءات سلطات الاحتلال في مطلع كانون ثاني (يناير) الماضي لمصادرة المزيد من أراضي النقب العربية، بذريعة “التحريش” وإقامة مناطق خضراء لتؤكد بأن أبناء شعبنا، باتوا يبنون على مخرجات معركة سيف القديس التاريخية التي أدمت الاحتلال وأصابته في مقتل، تلك المعركة التي شهدت مشاركة فعالة لأبناء شعبنا في فلسطين المحتلة عام 1948 على الصعيد الجماهيري المشتبك مع شرطة الاحتلال وحرس الحدود.
وفي إطار المواجهات بين أبناء شعبنا في النقب وقوات الاحتلال ، نفذ المواطن الفلسطيني “محمد أبو القعيان” عملية فدائية نوعية بتاريخ 22 مارس ( آذار) الجاري “طعن ودهس” ، أسفرت عن مصرع أربعة مستوطنين وإصابة ستة آخرين
وقبل هذه العملية بأسبوع استشهد الشاب سند الهربيد في 14-3 -2022 برصاص أفراد وحدة “المستعربين” ، خلال عملية مشتركة لهذه الوحدة مع جهاز الأمن العام (الشاباك) الإسرائيلي في مدينة رهط بالنقب ، حيث زعمت سلطات الاحتلال بأن وحداتها تعرضت لإطلاق النار، أثناء محاولتها لاعتقال شابين فلسطينيين ، وأنه جراء تعرضها للخطر قامت بإطلاق النار عليهما ما أدى إلى مقتل ( استشهاد) أحدهما .
تكامل المقاومة الشعبية مع المسلحة
في المحصلة نحن الآن أمام تكامل فعلي المقاومة الشعبية والمسلحة في عموم فلسطين التاريخية، في مشهد كفاحي واحد بعيداً عن طروحات السلطة التي تدعي التركيز على المقاومة الشعبية رغم عدم ممارستها لها على أرض الواقع، وهذا التكامل أربك الاحتلال وأربك أجهزة التنسيق الأمني في السلطة، خاصةً بعد أن عادت كتائب شهداء الأقصى للظهور وللتنسيق مع فصائل المقاومة لإدامة الاشتباك مع العدو الصهيوني. فظهور كتائب شهداء الأقصى – وفقاً للتقارير الصادرة من الأرض المحتلة – يزيد من إرباك السلطة وأجهزتها الأمنية، بحكم انتمائها الفتحاوي، ويفاقم خشية قيادتي فتح والسلطة من عودة هذه الكتائب للظهور، بعد أن حلها رئيس السلطة وفق التزامه بتفاهمات تينيت – ميتشيل وبخطة خارطة الطريق، إذ أن ظهورها يعمق الفرز في “فتح” لصالح نهج المقاومة الذي ظهر عشية الانتخابات، التي ألغاها الرئيس عباس في نهاية نيسان ( أبريل) 2021 بذريعة رفض الكيان الصهيوني إجراؤها في القدس ، وذلك بعد تحالف القيادي الفتحاوي الأبرز الأسير المحكوم بعدة مؤبدات “مروان البرغوثي” مع عضو اللجنة المركزية لحركة فتح – والذي جرى فصله- ناصر القدوة في إطار “تحالف الحرية”.
لقد جاء اعتراف قائد “فرقة بنيامين” في جيش الاحتلال الإسرائيلي في لقاء له مع موقع “واللا” العبري، في الثامن عشر من آذار (مارس) الجاري، ليؤكد صحة تكامل المقاومة الشعبية مع المقاومة المسلحة، حيث اعترف بإصابة 12 جندياً خلال مواجهات عنيفة في مخيم قلنديا شمال القدس قبل بضعة شهور، وأن أهالي المخيم رشقوا القوة الإسرائيلية (40 جنديا) – التي دخلت المخيم لاعتقال شاب فلسطيني – بالحجارة والغسالات والثلاجات عن أسطح المنازل، ما جعل من مهمة اعتقال الشاب بالغة الصعوبة وإلى وقوع إصابات كبيرة في صفوف القوة الإسرائيلية.
نهج السلطة الفلسطينية: حدث ولا حرج
وفي الصورة المقابلة: صورة السلطة الفلسطينية، وانحدارها الوطني، فحدث ولا حرج وبهذا الصدد نشير إلى ما يلي:
1- التنسيق الأمني متواصل مع أجهزة الأمن الصهيونية لإفشال المقاومة المسلحة، ولحصر المقاومة الشعبية في حدودها الدنيا، ورغم ذلك لم تصل فصائل المقاومة إلى استنتاج مفاده: “أن قيادة السلطة متحالفة أمنياً مع الكيان الصهيوني، وأن دورها بات يتماهى مع دور أنطوان لحد وسعد حداد في الجنوب”، قبل أن يتم تحريره من قبل المقاومة اللبنانية في أيار 2000 م حين انسحبت قوات الاحتلال من معظم الجنوب تجر أذيال الهزيمة.
2- أن منظمة التحرير الفلسطينية – ذلك الإطار الجبهوي الذي ناضل الشعب الفلسطيني تحت رايتها، وقدم بالاستناد إلى ميثاقها الوطني آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، هذا الإطار الجبهوي حوله رئيس السلطة الفلسطينية بجرة قلم إلى مجرد دائرة من دوائر السلطة الفلسطينية.
وأخيراً وباختصار شديد، فإن الساحة الوطنية الفلسطينية تشهد منذ زمن صراعاً حاداً بين نهجين، نهج المقاومة بكل أشكالها، ونهج الثورة المضادة المرتد عن الاستراتيجية الوطنية وثوابت النضال الفلسطيني، ما يقتضي من فصائل المقاومة أن تتجاوز حالة المراوحة في المكان في تعاملها مع قيادة السلطة، وأن تتوقف عن الرهان على إعادتها إلى المربع الوطني المطلوب، ذلك الرهان الذي أثبت فشله على مدى 29 عاماً منذ توقيع اتفاقيات أوسلو 1993، وعليها أن تحدد أيضاً موقفاً من بعض الفصائل، التي تضع إصبعاً في المقاومة وقدمين في السلطة بحثاً عن مكاسب فئوية ضيقة، كما حصل في اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الأخير.