لجأ الكيان الصهيوني إلى محكمة العدل الدولية مرةً واحدة في تاريخه وذلك عام 1957 عندما قام برفع دعوى ضد دولة بلغاريا بسبب الحادث الجوي الذي وقع في عام 1955 والذي نشأ نتيجة تدمير قوات الدفاع البلغارية إحدى الطائرات التي تتبع شركة العال “الإسرائيلية”، حيث قررت المحكمة في حينه رفض دعوى الكيان معلنةً عدم اختصاصها بنظر الدعوى، لأن بلغاريا في ذلك التاريخ لم تكن قد قبلت بعد الولاية القضائية الإجبارية لمحكمة العدل الدولية، وفي دعوانا هذه فهي المرة الأولى التي سيمثل فيها الكيان الصهيوني بوصفه مدعىً عليه لمساءلته عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بمواجهة دولة جنوب إفريقيا بوصفها الدولة المدعية، حيث تم تشكيل فريق الدفاع عن الكيان من مجموعة من المحامين ورجال القانون المتخصصين في مجال القانون الدولي وبعضهم توكل سابقاً للترافع عن الكيان الصهيوني أمام العديد من المحاكم الدولية وأهمهم المحامي البريطاني اليهودي (مالكوم شو) والمحامي (دافيد كورن) والمحامي (يوناتان فوغلمان) والمحامية (تاليا أينهورن).
جاءت اللائحة الدفاعية للكيان الصهيوني على 63 صفحة وقدمت في جلسة 12/1/2024 تناوب على الترافع فيها شفاهةً أمام المحكمة ستة وكلاء دفاع بنوا دفاعهم على ثلاثة محاور رئيسية تناولت دفوعاً شكلية وموضوعية.
محور الدفاع الأول:
ويتعلق بالدفع الشكلي بعدم اختصاص محكمة العدل الدولية بنظر الدعوى لعلة عدم وجود نزاع بين جنوب إفريقيا بصفتها الدولة المدعية وبين الكيان الصهيوني بصفته مدعى عليه، وكانت حجة وكلاء الدفاع عن الكيان الصهيوني أن اتفاقية منع الإبادة الجماعية اشترطت في البند التاسع منها وجود نزاع قائم بين الدولة المدعية والدولة المدعى عليها وأن هذا الشرط غير قائم بين الكيان ودولة جنوب إفريقيا.
محور الدفاع الثاني:
يتعلق بالدفع الموضوعي الرئيسي وهو عدم وجود النية والقصد الجرمي لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ومبدأ الدفاع عن النفس في أعقاب هجوم حماس في السابع من أكتوبر (عملية طوفان الأقصى)، وإطلاق الصواريخ على المدن والمستوطنات الصهيونية واستمرار احتجاز باقي الأسرى لدى فصائل المقاومة، وانبرى وكلاء الدفاع عن الكيان الصهيوني في دفاعهم عنه بسرد مزاعم وادعاءات كاذبة تتضمن التزام جيش الاحتلال في “عملياته العسكرية” بالقانون الدولي الإنساني، وعدم استهدافه المدنيين، وتوفيره لهم الممرات الأمنة والمساعدات الغذائية والصحية.
محور الدفاع الثالث:
وهو يتعلق بطلب رفض التدابير التحفظية (المستعجلة) حيث زعم محامو الكيان بأن التدابير المطلوبة يجب أن تتعلق بحقوق الدولة المدعية فقط وهي دولة جنوب إفريقيا هذا من جانب، ومن جانب آخر زعموا عدم وجود أي خطر محدق أو ضرر لا يمكن جبره، وأن التدابير المطلوبة غير مبررة وتضر بحقوق الكيان.
وفي هذا الجزء سوف أقوم باستعراض الدفاع بصورة موجزة على أن يتم مناقشة محاور الدفاع الصهيوني الرئيسية بشكل أكثر تفصيلاً في الأجزاء اللاحقة.
إن محامي الكيان الصهيوني قد بنوا دفاعهم على السردية والرواية الصهيونية ذاتها التي ما فتئ يرددها قادة الكيان مقتبسين أقوال سياسييه وعسكريه حرفياً، دون دعهما بالحجج القانونية الكافية لإقناع المحكمة ونفي الجريمة، ودون دعمها بالأدلة والبينات الدامغة، سواء المحايدة أو المستقلة عن طرفي النزاع (كالأمم المتحدة وهيئاتها المتنوعة أو الصليب الأحمر أو منظمة العفو الدولية أو منظمة أطباء بلا حدود)، حيث اقتصرت بيناتهم الهزيلة على بضع شهادات فردية وتصريحات وتقارير وقرارات صادرة عن مؤسسات الكيان الصهيوني من حكومة وجيش وشرطة ودفاع مدني وإسعاف، وهي أقل ما يمكن القول عنها أنها أدلة واهية لا قيمة قانونية لها: كونها صادرة عن الكيان ذاته وهو صاحب المصلحة في صنعها والتلاعب بها لنفي الجريمة والتهرب من العقاب، ومن ناحية أخرى فإن تلك الأدلة لم يتم فحصها وتدقيقها أو التأكد من مصداقيتها من قبل جهات متخصصة مستقلة أو منظمات دولية حتى يمكن الركون إليها، تماشياً مع القاعدة القانونية التي تقول: (لا يجوز للخصم أن يصنع بينة له بنفسه)، وأكثر من ذلك فأن العديد من تلك الادعاءات والروايات الفردية ثبت زورها وكذبها بالمطلق بموجب تحقيقات محايدة قامت بها بعض الصحف الصهيونية والأمريكية المؤيدة للكيان بناءً على تحقيقات الشرطة “الإسرائيلية” وشهادات العديد من جنود الاحتلال ومستوطنيه كأكاذيب مثل: (قطع رؤوس الأطفال وبتر أطراف النساء وحرق المدنيين واغتصابهن وتعذيبهن).
وعلى الرغم من أن بعض أقوال محامي الكيان تضمنت إقرارات واضحة بالمعاناة المروعة للمدنيين الفلسطينيين والخسائر الفادحة في صفوفهم نتيجة ما اسماه محامو الكيان (العملية العسكرية “الإسرائيلية”) إلا أنهم حملوا المسؤولية في ذلك لحركة حماس، وزعموا التزام الكيان الصهيوني بالقوانين الدولية التي تحكم حالة الحرب دون وجود أي نية للقضاء على الشعب الفلسطيني أو تهجيره.
وبالمجمل فقد جاء الدفاع الصهيوني هزيلاً وضعيفاً، مليئاً بالتناقضات الواقعية والقانونية لأنه بني على مزاعم وروايات مكذوبة لا أساس لها من الصحة، في محاولة منه لتزييف الواقع والحقائق على الأرض لخداع المحكمة وقضاتها والرأي العام العالمي من أجل تجميل صورة الاحتلال الصهيوني الغاشم والتغطية على جرائمه الوحشية والشنيعة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والتي كللها أخيراً بجريمة الإبادة الجماعية بهدف القضاء على وجود الشعب الفلسطيني وسلبه حقه المشروع في البقاء على أرضه ودفعه إلى الهجرة القسرية، تلك الجريمة التي يراها القانون الدولي جريمة الجرائم وخلاصة الشر وذروته -كما ورد حرفياً على لسان أحد محامي الكيان الصهيوني-، وفي النهاية نشير إلى أن دولة ألمانيا أعلنت عن نيتها الانضمام والتدخل كطرف ثالث في الدعوى لمصلحة الكيان الصهيوني وهي صاحبة التاريخ الأسود عندما يتم الحديث عن جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.