هل ترانا نكثر من استعمال مصطلح الفاشية بشكل عشوائي؟!
درج بعض السياسيين والكتاب لوسم العدوانية والوحشية في ممارسات بعض الكيانات والدول؛ بالفاشية، ويتردد هذا المصطلح الشائع حاليا بكثرة للتعبير عن الهمجية “الإسرائيلية” في عدوانها الوحشي على غزة وفلسطين ولبنان. وأنا هنا لست بصدد معارضة إستعمال هذا المصطلح بإستدلالاته العامة، ولكني أدعو للتمحيص بمفهوم المصطلح، وسبر جوانبه النظرية وتطوره التاريخي.
ما هي الفاشية؟ وما هو التعريف الأكمل الذي أعطي لها؟
في تعريفات أكاديمية تأصيلية؛ فإن الفاشية هي وصف لشكل راديكالي من الهيمنة، تمثلت تاريخيا في تجارب لحركات سياسية قومية أو وطنية ونُظم أسَّستها تلك الحركات، تبلورت بداية عبر تجارب بلدان أوروبية في فترة ما بين الحربين العالميتين لتصل إلى شكل أيديولوجي واعٍ بذاته.
سعت الحركات الفاشية لتوحيد الأمة التي تنتمي إليها عبر الدولة الشمولية مروجةً للتحرك الجماعي للمجتمع الوطني، كما عُرفت الحركات الفاشية بملامح مشتركة تتضمن تبجيل هيبة الدولة، والتعلق الشديد بالقائد القوي، والتشديد على التعصب الوطني، وعسكرة المجتمع.. وترى الفاشية في العنف السياسي والحرب والسطوة على أمم أخرى، أساليب مشروعة لتحقيق الأهداف السياسية “العليا”.
“عرف عن الفاشية عدم وجود أيدلوجية ثابتة ومحددة وجاهزة سلفاً، فأيدولوجيتها انتقائية تجريبية، تتمحور حول عنصر التعصب القومي أو العرقي أو الديني أو الطائفي، وتتغير عناصرها الاخرى من بلد إلى آخر، وهذه الأيدلوجية هي الاداة الضرورية لتجميع تيارات مختلفة في الصراع من أجل فرض السلطوية والارهاب على الجماهير الكادحة بالاستناد على حركة جماهيره معبأة”.
يتم إنشاء الحزب الفاشي على أساس شعارات قومية متطرفة ملونة بانتهازية اجتماعية مضلِله، كالدعوة لحل مشكلة الفلاحين، أو طرح شعارات لصالح العمال، وتحت هذه الشعارات تعيث العصابات الفاشية في بلادها فسادا، وتشن حملات قتل وتخريب، وغالبا ما تستهدف بشكل خاص المنظمات ذات الطابع الاشتراكي والديمقراطي التقدمي.
والفاشية في بلدان مختلفة، يمكنها أن تتمظهر بأشكال مختلفة.. وقد أعطى الاجتماع الموسع الثالث عشر للأممية الشيوعية للفاشية التعريف التالي:
“الفاشية هي ديكتاتورية إرهابية سافرة لعناصر الرأسمال المالي الأكثر رجعية وشوفينية وإمبريالية”. ولكن لم يُعطَ للفاشية دوما نفس التعريف، إذ أعطيت لها تحديدات متباينة في مختلف المراحل والظروف. وفي إطلالة سريعة نرى بأن إحدى مداخلات الأممية الرابعة، رأينا بأن المؤتمر قد شدد على الطابع البرجوازي الصغير للفاشية، بينما شددت مداخلة أخرى؛ على الغياب التام للفرق بين الديموقراطية البرجوازية والديكتاتورية الفاشية، وحاولت إظهارهما كشيء واحد!
ومع تراجع قوى الثورة العالمية، بدأنا نلمس طغيان اللاعقلانية الغربية التي أخذت تعبر عن نفسها بتعاظم قوى اليمين المتطرف والفاشية المتوحشة.
تستنجد البرجوازية بالفاشية لإجهاض وتبديد التحركات الشعبية.
جاء في تعريف للاشتراكيين الديموقراطيين الألمان؛ بأنه عند اشتداد أزمة الرأسمالية فإن الفاشية تستلف السلطة من البرجوازية الكبيرة، لتسلمها إلى البرجوازية الصغيرة، التي بدورها تستخدم هذه السلطة ضد نفسها، لحين انتهاء الأزمة.
وعلى المدى التاريخي لم تنتزع الفاشية الحكم من البرجوازية الكبيرة على الاطلاق، وإنما وصلت إلى الحكم بتواطؤ البرجوازية الكبيرة نفسها أو بدعمها المباشر، وعندها تصبح مستعدة لضرب عرض الحائط بتصريحاتها وشعاراتها الديماغوجية السابقة عن المطالب السياسية والاجتماعية للطبقات الكادحة.
هنا لا بد من التحذير من الانزلاق إلى فخ التبسيط النظري، مع ضرورة التنبيه إلى عدم الوقوع في خطأ اعتبار الانتقال من الديموقراطية البرجوازية -في أوقات الأزمة- إلى الفاشية كأمر محتم كما جرى في تشيلي والأرجنتين.. لأن الإمبريالية في الحالات الطبيعة -إن توفرت أمامها خيارات أخرى- لا تحب أن تخلي الساحة بالضرورة لنظام ديكتاتوري فاشي، وإذا أخذنا انجلترا الدولة الامبريالية الكبرى كمثال، لرأينا بأنها تعيش في ظل نظام ديمقراطي برلماني، ولكننا في نفس الوقت لا نستطيع أن ننفي عنها وجود خصائص رجعية ذات صبغة فاشية في جوهر هذا النظام.
ويؤكد تولياتي أمين عام الحزب الشيوعي الإيطالي في الثلاثينات: “بأن الميل نحو الحكم الفاشي موجود في كل مكان، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أيضا أنه في كل مكان يجب الوصول إلى الفاشية”.
إذن يجب استخدام مصطلح الفاشية بدقة، وعدم الوقوع في خطأ إطلاقها على الرجعية والارهاب بشكل عام، ولكن ظاهرة الارهاب والرجعية تتحول إلى فاشية عندما تصبح في خدمة البرجوازية الكبيرة، كما أن نجاحها يستند عادة على الرأسمال المالي، وعلى حركة جماهيرية يغلب على نخبها نسبيا الطابع البرجوازي الصغير، وتسود بين صفوفها الفئات غير الواعية من الكادحين من فلاحين وعمال.
الخطأ الآخر يكمن في الخلط بين الفاشية و”الدكتاتورية أو الدولة المركزية السلطوية”، في محاولة لإضفاء أهمية خاصة على الزعماء لتبرأة البرجوازية كطبقة مسؤولة عن قيام الفاشية وقيادتها. وهكذا نرى إن الحل الفاشي هو آخر الحلول التي تلجأ إليها البرجوازية الكبيرة للتغلب على أزماتها، خاصة إن أحست بتنامي ظروف نضوج حالة ثورية حقيقية تهدد سلطتها.
ماذا عن الإرهاصات الفاشية في مجتمعاتنا؟
في الدول التابعية والنامية، حيث يسود الحكم الفردي، عادة ما تظل الحركات الفاشية الطابع على هامش الحياة المجتمعية والسياسية، ولكنها تتحول في ظروف معينة إلى أدوات محلية للإمبريالية وامتدادا لأنشطة أجهزتها، صاحبة المصلحة في التكوينات الفاشية، لتوظيفها عند الحاجة.
في مثل هذه البلدان التابعة، يرتبط بروز الفاشية بأزمة الرأسمالية العالمية وارتداداتها، بحيث تتحول إلى أزمة عامة للنظام التبعي. في البداية تلتقط الرجعية الميول الفاشية وترعاها، خاصة عندما تفشل البرجوازية المحلية التابعة بإنشاء حزب سياسي فعلي ومكتمل الشروط في ظل تشتت تمثيل البرجوازية في الحياة السياسية إلى كتل مبعثرة، وشيوع عدم الاستقرار السياسي، وبروز تناقضات فئوية مجتمعية، مع حضور ملموس للإقطاع السياسي، والتشكيلات تحت الوطنية.
الصراع ينشأ بداية بين مجاميع الإقطاع السياسي، والليبرالية الجديدة التي تتلمس بسرعة ضعف البناء الفوقي وهشاشة المؤسسة السياسية للنظام، فتأخذ بالسعي إلى تعديل ميزان القوى لصالحها لإخضاع الدولة والمجتمع عن طريق التطور الرأسمالي المالي، واستيعاب التشكيلات الجديدة، وتذويب الصراع بين أطراف البنى الفوقة لصالح النيو ليبرالية ورواد الخصخصة. عندها تصطدم بالمؤسسة العشائرية والبيروقراط والتقاليد البرلمانية الملتبسة والهشة.. وفي ظل غياب الحواضن الشعبية، ونكوص الأحزاب البرجوازية، تأخذ بالاعتماد على المؤسسة الامنية المنظمة والمنضبطة من بين مختلف المؤسسات، فتقدم امتيازات وشراكات لقيادات هذه الأجهزة، لتزج بها في الحياة السياسية في مواجهة القوى السياسية المعارضة والفئات الشعبية التي بدأت تتكشف طبيعة النظم السياسية وحجم تغلغل الفساد في أركانها.
في مواجهة الفاشية، يجب أن تعرف القوى الاشتراكية والديمقراطية الشعبية، متى عليها تجميد شعارات الصراع الاجتماعي الطبقي، واعتماد شعار التحالف الشعبي الواسع ضد خطر القمع الفاشي.