في بلد يرتفع فيه نسبة الشباب ويعد من البلدان الشابة، لابد من تكريس الجهد والميزانيات والتفكير لأهم ما فيه من استثمار وهو ملف التعليم. ولأن التعليم والصحة حاجات إنسانية بحته هامة فكان لها ما لها من انعكاسات سلبية نتيجة جائحة كورونا التي ضربت العالم كله.
أصاب قطاع التعليم الكثير من الانتكاسات والانعكاسات نتيجة عدم الدراية والتخبط بالقرار الذي أحاط العالم في بدء الجائحة، إلا أنه في الأردن استمر الى يومنا هذا وكأن التعليم لم يكن أولوية هامه لدى الحكومات توازي مثلا الأولوية الاقتصادية والحياتية اليومية للناس.
آلية اتخاذ القرار التعليمي في الأردن
وفي هذا السياق تقول الأستاذة نادين النمري عن آلية اتخاذ القرار التعليمي في الأردن، أن هناك جهات متعددة وغير تربوية تتدخل في قرارات التعليم، حيث أنه بعد أكثر من سنتين من الوباء لا يجوز أن يبقى قرار العودة إلى التعليم الوجاهي قرارًا صحيًا، بل يجب أن يكون قرارًا أكاديميًا.
وأكدت النمري على أن التضارب في القرارات أثر كثيرًا على غياب المصداقية بين الحكومة والأهالي، وحتى المعلمين، موضحًة أن الفصل الدراسي الأول من هذا العام انتهى وهناك قناعة بأن التعليم الوجاهي لن يستمر وسيتحول الى تعليم عن بعد بأي لحظة، وهذا ما أثر على جودة التعليم وقيمته، مما أوصل الناس الى فقدان الإحساس بأهمية التعليم والجدية بإدارة الملف لدى الحكومة، وبالتالي الإهمال بهذا الملف، وكل هذا عكس نتائجه السلبية بشكل واضح على مخرجات الفصل الأول من هذا العام.
الصحة النفسية للطلبة في ظل جائحة كورونا
ارتبط ملف التعليم دائمًا وأبدًا بالتربية وتصويب السلوك، وزرع القيم وبناء الروح في الجسد، وكل هذه المتطلبات كانت الحاضنة الأساسية لها هي البيئة المدرسية وعند سؤال الدكتورة أسيل الجلاد عن مدى انعكاس جائحة كورونا وسياسة التعلّم عن بعد على الأطفال أوضحت بأن قضية الصحة النفسية المتعلقة بإغلاق المدارس لها تبعات أكبر بكثير من ما يذكر، حيث أن عدم الاستقرار بالقرارات خلقت حالة من التوتر عند الأطفال و عند الأسرة، كما أن إغلاق المدارس لفترات طويلة أبرزت مشاكل العزلة الاجتماعية و فقدان مهارات التواصل عند الأطفال، الأثر ينعكس على الأسرة ككل لعدم قدرة كل العائلات توفير حلول بديلة لرعاية الأطفال.
وأكدت الجلاد على أن الصحة لا يمكن حصرها فقط باحتمالية الإصابة بفايروس كورونا، بل إن المشاكل النفسية لها عواقب معقدة و طويلة الأمد اكثر من كورونا.
فمثلاً تعلق الأطفال بالشاشات في ظل غياب المدارس والتواصل مع الأصدقاء تسبب بحالة من الإدمان عند الأطفال والمراهقين، وله العديد من التبعات السلبية على البصر والنمو العقلي ومشاكل السمنة وغيره الكثير من المشاكل الصحية الأخرى. لذا يجب النظر إلى مفهوم الصحة كمفهوم شمولي بعدة نواحي وتبعاته القصيرة وطويلة الأمد.
الفاقد التعليمي
في محاولة من وزارة التربية والتعليم للخروج من أزمات التعليم عن بعد، والتأثير النفسي لدى الطلبة، وضعت برنامج تعويضي تعليمي لمعالجة ما أسمته “الفاقد التعليمي” لدى الطلبة. وعند سؤال الأستاذة نادين النمري عن تقييم الفاقد التعليمي أكدت أنه من أكبر الأخطاء كان تأجيل الاختبارات التشخيصية التي ستحدد نتائجها حجم الفاقد التعليمي. وبغياب هذه الاختبارات ونتائجها أصبحنا نتعامل مع مشكلة لا نعرف حجمها الحقيقي وبالتالي لن نتخذ القرار الذي يتناسب مع ضرورة حلها.
وفي معرض الرد على ذلك تقول الدكتورة أسيل الجلاد بأن إغلاق المدارس تسبب بفجوة تعليمية كبيرة حيث أن المنصات الالكترونية المتوفرة لغالبية المدارس لم توفر المتطلبات من حيث المفاهيم الأساسية والبيئة التفاعلية المطلوبة، مما تسبب بغياب القدرة على استيعاب المفاهيم الأساسية وتطور القدرات الكتابية والحسابية واللغوية. ولكن بعض المدارس الخاصة وفرت منصات تفاعلية منظمة مما تسبب بغياب العدالة والطبقية بنوعية التعليم بين فئات المجتمع المختلفة.
وفي ذات السياق أوضحت الدكتورة أسيل الجلاد أن الكثير من الطلبة لم يتلقوا أي شكل من أشكال التعليم خلال مدة الجائحة، واعتبروا منقطعين عن التعليم، وذلك تسبب في تعميق الفجوة وصعوبة تعويض الفاقد الأكاديمي والاجتماعي عن هؤلاء الطلبة بالذات في المراحل الأساسية ورياض الأطفال، حيث ان التعليم الاولي يعتمد على مهارات ومفاهيم أساسية لا يمكن ان تتوفر بدون بيئة مدرسية تفاعلية بوجود معلم وغرفة صفية وتشارك مع مجموعات من الأطفال.
ولنكون أقرب الى ملامسة الواقع سألنا الأستاذ جمال أبو صخر المعلم لدى مدارس وكالة الغوث، عن آلية تقييم التعليم لدى الطلبة خلال جائحة كورونا فأوضح بأن امتحانات تقيم مستوى الطلاب بقيت حبر على ورق، خاصة في ظل تطبيق نظام التناوب وما يسمى بالتعليم المدمج.
وفي ذات السياق أوضح الأستاذ جمال أن هناك خلل في الكراس وزمن معالجة الفاقد التعليمي الذي فشلت فيه وزارة التربية والتعليم، حيث ان الشهر الأول من الفصل الدراسي الأول افتقر الى توفير الكادر التعليمي المناسب من حيث العدد لتعليم الطلاب. وأشار إلى أن المناهج التي تم توفيرها كانت عقيمة لا تغطي الضروريات في الفاقد. بل كان الهدف أن هناك كراس للفاقد دون مراعاة حاجات الطلاب الضرورية، كما ان الطلاب الذين التزموا بالحضور لا تتجاوز نسبتهم 30 % من العدد الإجمالي للطلاب.
نظام التناوب والتعليم المدمج
في محاولة من وزارة التربية والتعليم لمعالجة مشكلة كثافة الطلاب لدى مدارس الحكومة ووكالة الغوث وعدم القدرة على تطبيق البرتوكول الصحي مع عدد الطلبة فيها، واعتمدت نظام التناوب والتعليم المدمج الذي يجمع ويتقاسم التعليم بين المعلم بالصف والمعلم على منصة درسك الالكترونية، في ظل تقسيم طلاب الشعبة الواحدة الى مجموعات بعدد مقبول وفق البرتوكول الصحي، مع ضرورة الالتزام بدوام التناوب (يومين، ثلاث أيام).
ويؤكد الأستاذ جمال أبو صخر استحالة تطبيق البرتوكول الصحي حتى في ظل نظام التناوب الذي يعمق أزمة الفاقد التعليمي ويرهق الكادر المدرسي، نتيجة الغيابات المرضية في حالة الإصابة وعدم التعويض الأكاديمي للمعلمين. مؤكدًا على أن العمل بنظام التناوب أرهق المعلم، لان العمل سيتضاعف عليه وفي نفس الوقت مرهق للطالب ويعيدنا الى دائرة التعلم عن بعد. وأن التعلم عن بعد كارثي أدى الى فقدان السواد الأعظم من الطلاب لمهارات التعليم واساسيته.
هذا ووصل للأستاذة نادين النمري العديد من ملاحظات الأهالي واعتراضهم على نظام تعليم التناوب العقيم، وتعميقه الفجوة الطبقية لدى فئات المجتمع، مؤكدًة على عدم جاهزية وزارة التربية والتعليم على ابتداع وسائل تطوير للتعليم خلال فترة أكثر من سنتين من جائحة كورونا العالمية.
البرتوكول الصحي في المدارس
طبيعة الأطفال بمختلف أعمارهم من المرحلة الابتدائية الى الثانوية تفرض علينا التفكير في قوانين وقواعد البرتوكول الصحي، فرغم أن الأطفال هم الأكثر التزام في مدارسهم بالتباعد وارتداء الكمامات، إلا أنهم الأكثر مخالطة خارج إطار الغرف الصفية. وعلينا الاخذ بعين الاعتبار أن إصابة الأطفال في فايروس كورونا تكون أخف اعراض وتأثير من الفئات العمرية الأخرى، وهذا يتطلب إعادة النظر في المفاضلة والمقاربة بين التعليم والصحة وترتيب الأولويات.
وعند سؤال الدكتورة أسيل الجلاد عن رأيها في البرتوكول الصحي تحدثت بضرورة تعديله بطريقة مرنه توفر التوازن بين العدالة بالتعليم والحفاظ على الصحة العامة، لان البرتوكول الحالي يتسبب بمشاكل لكثير من الطلبة لإجبار العديد من الطلاب للتناوب، إضافة الى ان نسب الإصابات التي تشترط تعليق الدوام محدودة جدًا في ظل انتشار مجتمعي قوي، واصفًة البروتوكول بأنه يحدد الانتظام بالتعليم دون النظر الى الحالة الوبائية في المجتمع ولا يأخذ البروتوكول بعين الاعتبار من أصيب سابقا، و من تلقى المطعوم عند عزل المخالطين، بالرغم من تعديل منظمة الصحة العالمية و مركز التحكم بالأمراض العالمي لبروتوكول عزل المخالطين و مدة العزل، مما يتسبب بعدة مشاكل من عدم استقرار، و عدم انتظام بالدوام، إضافة الى تقطع العملية التعليمية بشكل مستمر والانتظام بها.
رؤية قادمة لـ التعليم في الأردن…
أعرب الأستاذ جمال أبو صخر عن قلقه الكبير من القادم في الفصل الدراسي الثاني واصفًا بأنه سيكون تحصيل حاصل للطلاب ولن يعالج الفاقد التعليمي الذي امتد على مدار عامين تقريبا، ولكن يبقى الالتزام بالتعليم الوجاهي للفصل القادم أفضل الخيارات المتاحة أمام وزارة التربية والتعليم لتصويب جزء من الخلل الذي تعرض له قطاع التعليم على مدار العامين السابقين.
وتقول الأستاذة نادين النمري: نحن بحاجة لرسالة واضحة من الحكومة بأن التعليم أولوية، وأن لا قرارات جديدة على حساب التعليم، فنحن لا نحتاج لضمانات التعليم الوجاهي فقط بل لضمانات لتحقيق تعليم نوعي للجميع يحقق العدالة الاجتماعية.
وتابعت النمري أننا بحاجة لأن يكون هناك مسؤولية مجتمعية عند وسائل الاعلام للكف عن جلب مشاهدات على حساب التعليم. مؤكدًة على ضرورة أن يكون الخطاب صارم وواضح بأن التعليم وجاهيًا بشكل كامل دون نظام تناوب أو تعليم مدمج، وعدم تغيير المواعيد الدراسية. مع ضرورة المباشرة بعملية التقييم فورًا لمعالجة الفاقد التعليمي خلال عامين. هذا وقالت بأنها لا تجد أي مبرر لبقاء بروتوكول المدارس في ظل قرار الحكومة المرتقب بالانفتاح الكامل والتعايش مع فايروس كورونا.
ختاما إذا أردت أن تهدم أمه اهدم منظومة التعليم، وهذا ما نتمنى أن تأخذه بعين الاعتبار مراكز إصدار القرارات وتنفيذها، إن كانت حريصة على هذا الوطن وأبنائه.