هنالك التباس عربي وفلسطيني واضح في فهم طبيعة ما يجري في العالم الآن، ومحاولات يائسة مستمرة من قبل الكثيرين في اجراء مقارنة بين موقف أمريكا والغرب مما يجري في أوكرانيا وموقفهم مما جرى ويجري في فلسطين.
عندما قامت “إسرائيل”، مثلاً، بتدمير مدينة غزة للمرة الرابعة عام 2021 فوق رؤوس المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء ورجال، تم اعتبار ذلك من قبل أمريكا والغرب دفاعًا “إسرائيليًا” عن النفس! المطلوب الآن من الفلسطينيين والعرب أن يمتلكوا القدرة على التمييز بين الحق كقيمة مجردة غير مدعومة بشيء، والحق كقيمة مدعومة إما بالمقاومة الفاعلة او بالدعم العسكري من الآخرين أو الإثنين معًا.
أما في فلسطين فقد تنازلت السلطة الفلسطينية طوعًا عن المقاومة والنضال ضد الاحتلال وأصبح الحق الفلسطيني بالتالي بلا قوة تدعمه، وهكذا فشل العرب والفلسطينيون في فرض مواقف على أمريكا والغرب ترغمهم من خلال النضال والمقاومة على إعادة النظر في مواقفهم تجاه الفلسطينيين لأن الأصل الثابت في الموقف الأمريكي هو التأييد والدعم “لإسرائيل”.
أمريكا والغرب يعرفون الحقيقة جيداً ولا يحتاجون لمن يوضحها لهم. العرب هم من يحتاجون الى المصارحة بالحقيقة وهي بكل بساطة أن الحق لا يأتي زاحفاً لأصحابه في عالم المصالح الذي نعيشه. القوة تصنع من الباطل حقًا، فما بالك من الحق إذا ما تماهى ذلك الحق مع القوة؟؟ أما إذا ما ارتبط الحق مع الضعف، فإن النتيجة غالبًا ما تكون وبالًا على الضعيف دون أي اعتبار لأولوية الحق.
المحاولات المتكررة من قبل العرب لإسقاط الموقف الأمريكي تجاه ما يجري في أوكرانيا على موقف أمريكا مما جرى و يجري في فلسطين و للفلسطينيين، و افتقار تلك المحاولات الى أهمية توفر عوامل القوة الذاتية لدعم تلك المطالب هي ما يجعل من كل جهد عربي وفلسطيني لتبيان انحياز أمريكا والغرب “لإسرائيل”، وسياسة الكيل بمكيالين عند التعامل مع القضايا العربية مقارنة بمثيلاتها من القضايا غير العربية، أمرًا غير ذي فعالية، لأن ما يميز الوضع العربي حتى الآن، هو التراجع العربي المستمر و تنامي سقوط الأنظمة العربية في فخ الاستجداء من العدو قبل الصديق.
الحرب في أوكرانيا على فرض أننا قررنا تناسي أهمية الجغرافيا السياسية (geopolitics) في الحالة الأوكرانية – الروسية، ليست استثناءً من كل ذلك بل هي في الواقع تأكيداً له، وهي المثال الصارخ والأحدث على سياسة الكيل بمكيالين في ظل وجود حالة المقاومة الأوكرانية سواء الذاتية أو المدعومة من أمريكا والغرب، وغياب إرادة المقاومة كما تجسدها الحالة الفلسطينية الآن، بغض النظر عن الحق والحقوق.
ان تَعَنُّتْ أمريكا والغرب في موقفهم المؤيد “لإسرائيل” على حساب الحقوق الفلسطينية يعود في أصوله الى استمرار فشل العرب والفلسطينيين في دعم مواقفهم المحقة بالنضال المستمر على الأرض وبالتالي في فرض رؤيتهم على مصالح أمريكا والغرب. والأمر لم يقف عند ذلك بل تمادت حالة الفشل العربي الى الحد الذي أجبر العرب والفلسطينيين على ابتلاع السم الأمريكي جرعة تلو الأخرى والى الحد الذي أوصل الأنظمة العربية الى القناعة بأن انسحابها من التزامها تجاه القضية الفلسطينية هو أجدى لها ولمصالحها من معاداة أمريكا و “إسرائيل”، وأن مصالح الأنظمة الحاكمة في المدى المنظور هي بالتالي من خلال التحالف مع إسرائيل عوضًا عن محاولة فرض رؤيتهم ومصالحهم على أمريكا.
وقد استبدل العرب ذلك المسار المقاوم بمسار التطبيع الشامل والتعامل الأمني مع الكيان “الإسرائيلي”. أما عن الفلسطينيين فقد انزلقت قيادتهم في فخ أوسلو واستجداء السلام الى الحد الذي قبلت فيه قيادة أوسلو “بإسرائيل” كحاضنة للوجود الفلسطيني على أرض فلسطين واعتبارها الاحتلال “الإسرائيلي” هو الواقع والحقيقة الدائمة والوجود الفلسطيني هو بالتالي الظل والامتداد لذلك الاحتلال.
إذا كان هذا هو واقع الحال، فلماذا نتوقع من أمريكا والغرب أن يدعموا المطالب الفلسطينية والمصالح العربية؟ لو لم يقاتل الشعب الاوكراني مثلًا، فما قيمة كل الإجراءات الأمريكية والغربية العقابية ضد روسيا؟؟ لا شيء بالطبع. المقاومة والاستعداد للقتال والتضحية بشكل عام هي ما يغير الأمر الواقع ويفرض على الآخرين تغيير مواقفهم. وبغض النظر عن موقف الكثيرين مما يجري الآن على الساحة الدولية، فإن الحقيقة تبقى في كون الاستعداد للمقاومة والتضحية هو الأساس الأقوى والأكثر فعالية لتعزيز موقف أي طرف أو جهة من أي اجراء يجري فرضه عليها بالقوة.
الاستثناء الوحيد في تاريخ البشرية هو موقف القيادة الفلسطينية التي دخلت فخ أوسلو الذي أوصلها الى الاكتشاف العجيب بأن مقاومة الاحتلال جُرمًا وعملًا إرهابيًا يستحق العقاب أو القتل مما يعني أن الاحتلال وُجِدَ ليبقى في نظر تلك القيادة المشؤومة.
في غمرة ما يجري الآن من تطورات دولية خطيرة في اتجاه تغيير النظام الدولي احادي القطبية السائد الآن، ووحشية المقاومة التي تظهرها أمريكا والغرب لذلك المسعى، نرى تسللاً عربيًا لئيماً في مسار التعاون الأمني والسياسي مع “إسرائيل” يتم بتسارع ملحوظ وبهدوء يعزز الريبة والتساؤل عن الأهداف الحقيقية من وراء ذلك، وعن مصلحة العرب والقضية الفلسطينية في كل ذلك. ويترافق ذلك مع غياب فلسطيني ملحوظ عن مجرى الأحداث الخطيرة دوليًا وإقليميًا وكأن السلطة الفلسطينية قد قبلت بأن السياسة الفلسطينية والأمن الفلسطيني حتى في إطارهما العربي هما مسؤولية “إسرائيلية” ولا علاقة للقيادة الفلسطينية أو الفلسطينيين بها.
إن هدم النظام الدولي أحادي القطبية السائد الآن هي مصلحة فلسطينية وعربية ودولية. وأي مسعى يؤدي الى تحويل النظام الدولي من أحادي القطبية الى متعدد الأقطاب هو مسعى يجب أن يحظى بالأولوية والدعم العربي والفلسطيني بغض النظر عن المسار الذي قد يتطلبه مثل ذلك التغيير. التغييرات الكبيرة تترافق في العادة مع أو تتبع حروباً شرسة وإجراءات في غاية القسوة على الأطراف المعنية، وهذا ما يجري الآن. وما الحرب في أوكرانيا إلا عنواناً لمثل هذه المرحلة وللتغيير الدولي القادم والذي قد يؤدي الى تحريك مياه القضية الفلسطينية الراكدة الى حد التعفن.