في دعوىً يراها الكثيرون محاكمة القرن تتقدم دولة جنوب افريقيا منفردةً بجهدٍ مشكور إلى محكمة العدل الدولية بهذه الدعوى في مواجهة الكيان الصهيوني لمسائلته عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
إن جنوب إفريقيا تتقدم بدعواها هذه لعدة اعتبارات عدة أخلاقية وسياسة وقانونية أهمها:
المصداقية العالية والثقل الأخلاقي الوازن الذي تتمتع به جنوب إفريقيا على الصعيد العالمي بعد معانتها عقوداً طويلة من نظام الفصل العنصري، وللعلاقة الوطيدة والتاريخية التي تمثلت بوقوف الشعب الفلسطيني وثورته لعشرات السنوات مع نضالات شعب جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري إلى أن تمكن من اسقاطه عام 1994، إضافةً إلى أنها ليست دولةً عربية أو إسلامية الأمر الذي سيضعف حجة الكيان الصهيوني بالتحيز ضده فيما لو تقدمت بالدعوى أي دولة عربية أو إسلامية، وأخيراً هناك اعتبار قانوني لا يقل أهميةً يتعلق ببعض الثغرات القانونية الخطيرة في اللائحة الداخلية لمحكمة العدل الدولية والتي يمكن أن ينفذ منها رجال القانون الذين يمثلون الكيان الصهيوني، والتي ربما تأتي بنتائج معاكسة كلياً لما نهدف إليه في حال تمكن الكيان سياسياً من جمع الأغلبية اللازمة في موضوع التدابير المؤقتة كأن يتم الطلب من دولة فلسطين فيما لو كانت طرفاً بالدعوى أن تقوم بتسليم الأسرى فوراً دون قيد أو شرط، وتسليم المسؤولين عن التخطيط والتنفيذ لعملية طوفان الأقصى، أو الطلب من الأردن أو مصر فيما لو كان أحدهما طرفاً بالدعوى بالسماح باستقبال النازحين والفاقدين لبيوتهم مؤقتاً ريثما تنتهي العمليات العسكرية وتتاح لهم فرصة العودة إلى بيوتهم بأمان تحت حجة الحفاظ على أرواحهم، فنص المادة (75/1) من لائحة محكمة العدل الدولية يتيح لها الخيار عندما يعرض عليها طلب لتقرير تدابير تحفظية أن تقرر تدابير مختلفة اختلافاً كلياً عن التدابير المطلوبة، أو أن تقرر تدابير ينبغي أن يتخذها أو ينفذها الطرف ذاته الذي تقدم بالطلب.
إن دعوى جنوب إفريقيا قد تم الإعداد لها بكل عنايةٍ وتعمق وتروي من قبل أساتذة قانون متمرسين في مجال القانون الدولي وقضاة سابقين ومحامين ذوي خبرةٍ في أروقة المحاكم الدولية، وبمساندة منظمات عالمية معنية بحقوق الإنسان وبمشاركة عربية وفلسطينية فاعلة قدمت فيها كل البينات والأدلة الدامغة والوثائق والمستندات الكافية كالبيانات والتقارير الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المستقلة وروايات الشهود العيان من قطاع غزة وتصريحات مسؤولي الكيان الصهيوني وضباط وجنود جيشه إضافةً للسوابق والتطبيقات القضائية لمحكمة العدل الدولية بهذا الخصوص.
إن دعوى جنوب إفريقيا استندت بالأساس إلى الأعمال التي تم التهديد بها أو تبنيها أو التغاضي عنها أو اتخاذها أو التحريض عليها أو محاولة ارتكابها عن قصد من قبل حكومة الكيان الصهيوني وجيشها بهدف التدمير الكلي أو الجزئي للشعب الفلسطيني في القطاع، في خرقٍ متعمد لاتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، والتي يعد الكيان الصهيوني وجنوب إفريقيا طرفان فيها وملزمان بتنفيذ أحكامها، ومن جملة تلك الأفعال على سبيل المثال: قتل الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك نسبة كبيرة من النساء والأطفال ،بعضهم يبدو أنهم تم إعدامهم بشكل متعمد، والتسبب في أذى جسدي وعقلي خطير للفلسطينيين في غزة، بما في ذلك البتر والصدمة النفسية والمعاملة غير الإنسانية والمهينة، والتسبب في الإخلاء القسري والتهجير لحوالي 85 % من الفلسطينيين في غزة بما في ذلك الأطفال وكبار السن والعجزة والمرضى والجرحى، وكذلك التسبب في تدمير واسع النطاق للمنازل والقرى ومخيمات اللاجئين والبلدات والمناطق بأكملها في غزة مما يحول دون عودة نسبة كبيرة من السكان إلى منازلهم، والتسبب في الجوع والعطش والمجاعة للفلسطينيين المحاصرين في غزة، من خلال عرقلة المساعدات الإنسانية الكافية، وقطع المياه والغذاء والوقود والكهرباء بشكل كافٍ، وتدمير المخابز والمطاحن والأراضي الزراعية وغيرها من وسائل الإنتاج والعيش، والفشل في توفير وتقييد توفير المأوى والملابس والنظافة والصحة لأبناء القطاع، بما في ذلك 1.9 مليون شخص نازح داخليًا أجبرتهم أعمال جيش الاحتلال على العيش في ظروف خطيرة من الفقر، إلى جانب استهداف وتدمير أماكن المأوى بشكل روتيني وقتل وجرح من يلجؤون إليها، بما في ذلك النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن، والفشل في توفير أو ضمان توفير الاحتياجات الطبية لأبناء القطاع، بما في ذلك تلك الاحتياجات الطبية التي خلقتها أعمال إبادة جماعية أخرى تسببت في أذى جسدي خطير، بما في ذلك الهجوم المباشر على المستشفيات والإسعافات وغيرها من المرافق الصحية، وقتل الأطباء والمسعفين والممرضات، بما في ذلك أكثر المسعفين تأهيلاً في غزة، وتدمير وتعطيل نظام الرعاية الطبية في غزة، وتدمير الحياة الفلسطينية في غزة، من خلال تدمير جامعات غزة ومدارسها ومحاكمها ومبانيها العامة وسجلاتها العامة ومتاجرها ومكتباتها وكنائسها ومساجدها وطرقها وبنيتها التحتية ومرافقها وغيرها من المنشآت الضرورية للحياة المستدامة للفلسطينيين في غزة كمجموعة، إلى جانب قتل مجموعات عائلية كاملة ومحو تاريخهم الشفهي في غزة وقتل أعضاء بارزين ومتميزين من المجتمع، وفرض تدابير تهدف إلى منع الولادات الفلسطينية في غزة، من خلال العنف التناسلي الذي يمارس على النساء الفلسطينيات والرضع والأطفال الصغار.
ولا بد للإشارة إلى أنه لم يغب عن جنوب إفريقيا تقديم عرضٍ تاريخي شامل لمظلومية الشعب الفلسطيني منذ نكبة عام 1948 مروراً بنكسة عام 1967، وشرحٍ مسهب لمعاناة قطاع غزة قبل وبعد الانسحاب أحادي الجانب مع بقاء السيطرة العسكرية على سماء القطاع وبحره ومعابره وفضائه الالكتروني والسجل المدني لسكانه، وإلقاء الضوء على الجوانب الجغرافية والسكانية والاقتصادية والاجتماعية والصحية للقطاع. إن دعوى جنوب إفريقيا تضمنت أيضاً طلباً مستعجلاً لاتخاذ تدابير تحفظية محددة تطلب فيها وقف العمليات العسكرية وتقديم الإغاثة المطلوبة لسكان القطاع وتمكينهم من العودة إلى شمال القطاع فضلاً عن التعويض وجبر الضرر المطلوب في القرار النهائي بالدعوى.