سقوط الدولة العربية بين براثن الجمود والاستبداد وأجهزة المخابرات

د.لبيب قمحاوي
6 دقيقة وقت القراءة

يمر العالم العربي الآن بمخاضات جديدة وتغييرات َقلَبت في أصولها الكثير من المفاهيم السابقة والمتعارف عليها والتي فَقَدَ بعضها معناه، وبعضها الآخر إما في الطريق الى ذلك أو أنها اكتسبت معانٍ جديدة قد تكون بعيدة كل البعد عما نعرفه ونشأنا عليه.

مفاهيم مثل الوطنية والحرية والسيادة والعروبة والكرامة وغيرها كثير أصبحت بالنسبة للأجيال الجديدة مصطلحات بلا معنى أو مصطلحات تفتقر الى أي معنى مفهوم بالنسبة لها.

وفي المقابل فإن الإصرار على التمسك بالماضي من قبل البعض لا يعكس بالضرورة سلامة الرؤيا بقدر ما قد يعكس غيابها، ولكن وفي الوقت نفسه فإن الدعوة إلى التغيير يجب ألا تشكل مدخلاً للتفريط أو دعوة للابتعاد عن التراث التراكمي السياسي والثقافي للشعوب. فالشعوب والأمم الحية تتفاعل مع ماضيها وحاضرها ومستقبلها وتسعى نحو الأفضل ضمن المنظومة السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة والتي تعطيها من الخصائص ما يميزها عن الآخرين ويؤكد خصوصية ما يجمعها.

الشعوب والأمم الميتة، والعرب منها، تتميز بجمودها واقتدائها المستمر والمتواصل بالماضي لأن التواصل بينها وبين المستقبل ومتطلبات التغيير المرافقة له تكاد تكون مقطوعة، كما أن استسلامها وخضوعها للحاكم بشكل مطلق يجعل منها تربة خصبة للجمود والاستسلام لإرادة الغير، كون التغيير قد يحمل في ثناياه خطورة على نهج الجمود المرافق للاستبداد مما يجعل من التغيير نهجاً مرفوضاً من قبل الحاكم المستبد.

الحاكم العربي قد لا يكتفي بخنوع واستسلام شعبه، كونه لا يتورع أصلاً عن تدمير كافة مؤسسات الدولة التي يحكم من أجل تعزيز انفراده وتفرده بالسلطة، هذا بالإضافة الى أنه غالباً ما يستبيح كافة الروابط والضوابط والممنوعات من أجل تكريس قدرته على إساءة استعمال تلك السلطة المطلقة.

إن إساءة استعمال السلطة يشكل بحد ذاته قمة الاستهتار بالشعب ومنظومة القيَمْ التي تميزه، مما قد يدفع الأمور الى الخروج عن قواعد المنطق ويجعل ردود الفعل لمثل تلك السياسات والتجاوزات أمراً يصعب التنبؤ به أو قياسه وقياس نتائجه فيما لو حصل، أو عندما يحصل.

القدرة على إساءة استعمال السلطة المطلقة بل والرغبة والاستعداد لفعل ذلك هو تطور جديد يعيد الأمور الى ما كانت عليه في حقبة العصور الوسطى التي امتازت بالتسلط والإساءة للشعوب عموماً وعدم الاهتمام إلا بالحاكم ورغباته ونزواته وعدم جواز مساءلته أو الاعتراض على إرادته باعتباره “ظل الله على الأرض”. ومن هذا المنطلق، فإن العرب الآن يعيشون في واقعهم وعلاقتهم مع الحاكم أيام العصور الوسطى وكأن الزمن قد تجمد وتوقف هناك.

أحاديث كثيرة تدور الآن بعضها بلسان غاضب والكثير منها في ضمير المستتر يهمس بها المواطن العربي لنفسه ليس شكاًّ في صحة ما يفكر به بل خوفاً من تبعات ما يفكر به على نفسه وعلى المحيطين به، وهذه الانفرادية في التفكير هي النتيجة الحتمية لنجاح الحاكم العربي في تفتيت الشعب الذي يحكم، وتمزيق مؤسساته وتحويله الى فرق متناحرة ومجموعات صغيرة فرعية عرقية أو جهوية أو عشائرية أو دينية أو مذهبية تسعى الى التنافس على بعض المكاسب الوظيفية أو المادية أو المنصبية من خلال استرضاء الحاكم وتمرير وتبرير نزواته.

الأردن هو في الحقيقة مثال على الدولة الأمنية العربية التي تُجَسد في واقعها وسلوكها الطبيعة الحقيقية لدولة تقلصت الى الحدّ الذي سمح لدائرة واحدة مثل دائرة المخابرات العامة أن تدير شؤونها.

إن منطق الأمور يشير في العادة الى أن الدولة هي من يدير كافة المؤسسات والدوائر العاملة فيها، وهذا قد يكون صحيحاً بدرجات متفاوتة باستثناء دائرة المخابرات العامة  في الحالة الأردنية والتي سمح لها النظام تدريجياً بتنفيذ سياساته الأمنية وسياسة الاحتواء أو الترهيب أو الترغيب أو بمراقبة تنفيذها إلى الحد الذي أصبحت فيه تلك الدائرة هي المرجعية لتشكيل الحكومات وإجراء الانتخابات وتحديد من ينجح فيها وتشكيل المجالس المختلفة ومنها الدستورية مثل مجلس الأعيان الى آخر ذلك من مهمات جعلت من الدولة الأردنية امتداداً لدائرة المخابرات العامة وظلاًّ لها . أمر عجيب غريب لا مثيل له إلا في أكثر الدول استبداداً وتخلفاً ولكنه يشكل مثالاً ومؤشرا، وان بدرجات متفاوتة، على الوضع الذي تعيشه معظم الدول العربية.

الشعب العربي وهو المحب للألقاب والمناصب لا يقاوم ذلك المسار في العادة، بل يسعى الى استرضاء مراكز القوة التابعة للنظام ومنها المؤسسات الأمنية التي أصبحت هي الرافعة الحقيقية والمؤثرة للوصول الى المنصب في الدولة العربية بشكل عام، وبالتالي احتلت مكان الأحزاب السياسية أو مؤسسات المجتمع المدني كرافعة للوصول الى هذا المنصب أو ذاك، وهذا الواقع المؤسف زاد من طغيان المؤسسة الأمنية على الحياة السياسية العامة والاقتصادية من خلال التحكم فيمن يدير مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية.

العودة بالدولة الى أن تكون دولة مؤسسات فاعلة يتطلب توفر الإرادة لفعل ذلك والقدرة عليه، لا أحد يريد استبدال دكتاتورية دولة المخابرات في العالم العربي بدكتاتورية أخرى، العودة بالدولة الى أصولها الدستورية الديموقراطية قد أصبح مطلباً شعبياً مرتبطاً بمطالب الإصلاح والتغيير الديموقراطي.

إن نهج التخويف وربط الإصلاح بخطر انهيار الدولة هي دعوة الى الجمود وقبول الوضع القائم بمساوئِهِ باعتباره قَدَراً لا مفر منه، والحديث هنا لا يهدف الى النظر للواقع بسوداوية أو باستسلام، بقدر ما يهدف الى التأكيد على أهمية فتح قنوات الإصلاح والتغيير السلمي أمام المواطنين منعاً لتفاقم الأمور وتراكم حالات الغضب والرفض وتطورها الى أعمال عنف لا يريدها أحد، وهذا هو الرد على من يمارسوا نهج التخويف، وهو نهج سلبي ضاغط لا يؤدي بالنتيجة إلا إلى الانفجار.

شارك المقال
  • مفكر ومحلل سياسي
  • رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة اللوازم والخدمات الكيميائية CESSCO، عمان - الأردن.
  • رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة دلتا لخدمات الطاقة، عمان - الأردن.
  • رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة السليم للخدمات الصناعية، بغداد - العراق.
  • رئيس مجلس الإدارة لشركة اللوازم والخدمات الهندسية، دمشق - سوريا.