بدعوة من الرئيس المصري، تعقد الآن قمة القاهرة للسلام، بحضور ثلاث منظمات دولية، وأكثر من ثلاثين دولة، بعضها عضو دائم في مجلس الأمن وأعلن بشكل سافر بأنه يقف إلى جانب “إسرائيل” بالكامل في عدوانها الهمجي الأخير على قطاع غزة.
قبيل إنطلاق معركة “طوفان الأقصى” المظفرة في السابع من أكتوبر، كانت الإجراءات الاسرائيلية تقوم على مخطط مبيت يعمل على تهيئة الأوضاع لضم الضفة الغربية عبر مصادرة الأراضي وإغراقها بالمستعمرات، وإختطاف القدس بالكامل، والمباشرة بإجراءات السيطرة على المسجد الأقصى وتهويده، وتصاعدت الإقتحامات الدموية للمخيمات والمدن الفلسطينية، وتزايدت حدة التنكيل بالأسرى والمعتقلين.
كل ذلك مع إبقاء غزة مسيجة ضمن مخطط المناورة والعزل من خلال استمرار حصارها الخانق، مع مشاغلتها بفتات المعيشية للسكان من خلال إتاحة العمل “المحدود” لأبناء القطاع، والسيطرة على مصادر معيشة السكان من الماء والطاقة والكهرباء، وتمرير المنحة القطرية عبر مراقبة لصيقة، وعمل كل ما من شأنه لتأبيد الانقسام الفلسطيني، وعزل الثقل السياسي لفصائل المقاومة وإبقائه محصورا في غزة تحت حكم حماس، لإبقاء دورها وتحالفاتها بعيدة عن مركز القرار الفلسطيني، لتقدير إسرائيل وداعميها، بأن هذه الفصائل المقاومة، تأخذ موقفا عدائياً ثابتا من أي شكل لضم الضفة، ولكافة الحلول الإستسلامية، وقد لاحظنا بأن العالم قد بدأ يتكيف مع هذا الواقع الممنهج، وهذه الترتيبات الخاصة بالقطاع، طالما نجحت أطراف الحصار المحلية والغربية، بإبقاء الناس في القطاع يعيشون بالحد الادنى من متطلبات الحياة، ضمن إطار مقاربات إنسانية تدار من خلال إستراتيجية المعونة بالقطارة، ويشرف عليها بشكل مقنن منظمات العمل الإنساني الدوليي والأهلي.
تدار القمة الحالية بعقلية التغطية على الحرج الذي يعيشه العالم أمام هول الجرائم التي ترتكب كل ساعة بحق المدنيين وحجم التدمير الممنهج لكل أسباب الحياة في قطاع محاصر منذ 17 عاما، بينما الطرف المصري راعي القمة، يدرك جيدا حجم الإستهداف “الإسرائيلي” لأمن مصر القومي، كما يتخوف من تصاعد غضب الرأي العام في الشارع المصري ضد الكيان المعتدي، ولا تخفي الدبلوماسية المصرية، بأن الاهتمام حاليا ينصب على “تحقيق التهدئة” على طريق تحقيق السلام “للخروج من هذه الأزمة وإدراك الخطورة في توسيع رقعتها، وما ينجم عن ذلك من مخاطر على الأمن والاستقرار”، ولا يبتعد موقف الأردن وهواجسه عن الموقف المصري!! حسب التوقعات، فإن التركيز حاليا سينصب على التهدئة، وطرح المقاربات الإنسانية خصوصا في ضوء استمرار وقوع الضحايا من المدنيين الفلسطينيين في جميع أنحاء القطاع، والممارسات “الإسرائيلية” الإجرامية التي تخرج تماما -كالعادة- عن قواعد القانون الدولي الإنساني، مع إمكانية تطور المشهد على صراع واسع في المنطقة يهدد وجود الكيان وأمن ومصالح الدول الغربية في الإقليم.
الكثيرون في المنطقة يقرون بأهمية وإلحاحية الحلول الإنسانية الإنقاذية، مع ضرورة مراعاة التعاطي بميزان بين الأبعاد السياسية والضرورات الإنسانية، ولكن عندما يروج للإنساني لذاته وبذاته بديلاً عن الحلول السياسية، ويُتخذ كذريعة لتغييب طرح حلول سياسية تعالج المشاكل الحقيقية، يصبح الإنساني شيئا تافها وهشاً، وشكلأ من التلفيق وتبرئة القتلة الإرهابيين الذين يجلسون الٱن في مقر القمة، وهذا ما فرض نفسه في الغالب على مسار القضية الفلسطينية.بعد كل عدوان كبير، تخبرنا التجربة بأن الإحتلال عمل على مدى عقود على إفشال وإجهاض العديد من المحاولات التي قام بها المجتمع الدولي، وكان دوما ينجو من المحاسبة والعقاب بحماية من ربيبته أمريكا وبعض هذه الدول الموجودة حاليا في القاهرة والتي تدعي حرصها على الإنسانية وحقوق الإنسان. المشهد الآن يسفر عن تسجيل المقاومة إنتصارا تكتيكيا هاما في منازلة 7 أكتوبر، خرجت منه منتصرة، فأكدت على وجودها وأصالة دورها، وظهر هذا جليا على صمود قوى المقاومة وتماسك حواضنها الشعبية، وعمقها الإستراتيجي في الضفة وخارج الجغرافيا الفلسطينية..
كما أن الحراك الشعبي من أجل فلسطين على المستوى العربي والعالمي أظهر حجم الرصيد الفلسطيني المتنامي في العالم، وتأثيرة الملموس على صاحب القرار وعلى توجهات الطبقة السياسية الغربية، مما دفع دول العدوان للهرولة إلى القاهرة بعد إصابتها بحالة من الذعر والقلق على قاعدتها المتقدمة..
وهذا يؤشر لأهمية أن يأخذ الشعب الفلسطيني وحلفائه، قرارهم بأنفسهم. الدم الفلسطيني في هذه المرحلة يجب أن لا يقبل أقل من إيقاف العدوان فورا، وإلغاء إتفاق أوسلو، ورفع القبضة الإسرائيلية عن الضفة الغربية بالكامل، وتحرير جميع الأسرى، وإبعاد الإحتلال عن القدس والمسجد الأقصى، ورفع الحصار بالكامل عن قطاع غزة، بإنتظار معركة قادمة وميزان ردع جديد..
أما المساعدات الإنسانية فهي حقوق إنسانية وأخلاقية على العالم التكفل بها، دون تقنين، وبدون قمم للسلام، أو منة من أحد.