في غضون أيام قليلة، اشتعلت النيران في كازاخستان إثر ارتفاع أسعار الغاز.. الاحتجاجات كانت غير مسبوقة منذ استقلال البلاد رسميا في العام 1991.
تحت الثلوج والطقس المتجمد، شهدت العاصمة الاقتصادية الما-اتا بشكل خاص، يوم الأربعاء الماضي حشودا غاضبة اقتحمت وأحرقت ونهبت عدة مبانِ حكومية.
نهاية الأسبوع الماضي وقف العالم يرقب بقلق وفضول تصاعد أعمال العنف، وانفلات الوضع بالكامل في البلاد، خاصة في العاصمة الاقتصادية حيث وقعت معظم الخسائر، وشوهد يوم الخميس عددا من البنايات الرسمية والخاصة وقد احترقت بالكامل، من بينها مركز البلدية، وانتشرت في الشوارع الرئيسة هياكل السياسات المحطمة، وحافلات النقل العام متفحمة تغلق الطرق وتتحول إلى متاريس لإعاقة تقدم قوات الأمن.
اندلعت الاحتجاجات بداية في أول يوم أحد من العام الجديد، نتيجة السخط الشعبي من حالة الظلم وصراعات السلطة وسوء الأوضاع الاجتماعية، وتفجرت بسرعة بسبب الارتفاع المفاجئ في أسعار الغاز، سرعان ما تحول المتظاهرون إلى أعمال شغب عنيفة في المدن، ثم علت أصوات تطالب الحكومة بالعودة عن رفع الأسعار، وما لبثت أن أضيف إليها مطالب سياسية: استقالة الحكومة أولاً، ثم المطالبة بإنهاء جميع الأدوار السياسية للرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، والمطالبة بتنحية الرئيس قاسم توكاييف، وصولا إلى استبدال النظام!!
دارت اشتباكات دموية بين المحتجين وقوات الأمن. تراجعت الحكومة عن الزيادات في الأسعار، وأعلن الرئيس حالة الطوارئ ونشر الجيش في عدة مواقع، مع ورود تقارير متوافقة عن سقوط عشرات الضحايا من الجانبين، إضافة للخسائر المادية الجسيمة، وسط تصعيد متسارع، رافق تجاهل المحتجين لإعلان حالة الطوارئ، مما أدى بالرئيس قاسم توكاييف إلى طلب الدعم من منظمة “معاهدة الأمن الجماعي“، بإرسال قوات لحفظ النظام، حيث تشكل فيها روسيا القوة الأساسية.
بدأ الإعلام الغربي يفرك كفية بحماس بالغ، وأخذ الإعلام الفرنسي يبشر ب”ربيع عربي” في الحديقة الخلفية لموسكو، ضد النظام “الشمولي” في نور سلطان، وبادر الإعلام الأمريكي بالحديث عن إرهاصات “حرب عصابات للمدن، يصعب السيطرة عليها”، ويحذر “النظام” من التعرض للمتظاهرين، ويندد بانتشار القوات الروسية في البلاد!!
إعلان الحكومة تراجعها عن زيادات الأسعار، لم يهدئ من حدة الاحتجاجات، وتطورت الأحداث إلى إعلان الحكومة الكازاخية تقديمها لطلب رسمي، بتدخل أطراف تحالف “معاهدة الأمن الجماعي”.
أعلن الرئيس رفضه التفاوض مع المتظاهرين وممثليهم في الخارج، وأقال رئيس جهاز المخابرات بتهمة الخيانة العظمى، وأعلن بأن ألما-تا قد تعرضت لهجوم مخطط إجرامي من قبل عشرين ألف “مجرم” وأنه أمر بالتعامل بعنف دون رحمة مع “مثيري الفوض والشغب”.
على الفور إنتشر حوالي ثلاثة آلاف مسلح من قوات النخبة الروسية والدول الحليفة على كامل مساحة الجغرافيا الكازاخية.
“تعتبر كازاخستان الدولة الأهمّ للحلف الروسي الآسيوي للأمن والدفاع المشترك، وإحدى الملاذات الموثوقة لانتشار الأسلحة الاستراتيجية الروسية. وتُعد الدولة الأكبر مساحة في جمهوريات وسط آسيا، حيث تزيد مساحتها عن 3 ملايين كم2، أي تعادل ستة أضعاف مساحة فرنسا، مع تميزها بتنوع طبوغرافي معقد للغاية. يبلغ عدد سكانها 19 مليون نسمة، وتحاذي الجنوب الروسي بحدود مشتركة يبلغ طولها 7644 كلم. وهي دولة غنية بالنفط والغاز واليورانيوم إلى جانب عددا من المعادن الأخرى”..
يقدر مراقبون بأن كازاخستان تُستهدف بمخطط ينوي نشر التوتر في جمهوريات وسط آسيا والقوقاز انطلاقاً من منصة كازاخستان، ويتم امتطاء صهوة السخط الشعبي وومنصات المنظمات غير الحكومية، لتعميم نموذج “الثورات الملونة”، وصولا إلى سيطرة سريعة على مفاصل البلاد، وخلق مشاكل معقدة لروسيا على حدودها الجنوبية، تفقدها عددا من أوراقها القوية في خلافها مع الولايات المتحدة والأطلسي في أكثر من بؤرة في العالم، وتبعد تأثيرات السياسة الروسية عن الشرق الأوسط وشرق أوروبا، ومن هنا تجيء أفضلية الحركة الروسية وحلفائها الاستباقية السريعة، في حين تؤكد المصادر القريبة من موسكو، بأن ما جرى كان خطة أعدت لها الدوائر الغربية منذ سنوات، وتم التحضير اللوجستي لها من قبل واشنطن وتل أبيب مع دور لأنقرة، وتم الإنفاق عليها بسخاء من قبل بعض الدول الخليجية.
وهكذا يرى مراقبون، بأن الأحداث الكازاخية، تأتي في سياق المواجهة غير المباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الاتحاد الروسي، وأن ما يجرى في كازاخستان يمثل نموذجا جديداً من الحروب المركبة، تبدأ بتسبب مشاكل اقتصادية اجتماعية للدول المستهدفة، يتبعها تحريك منظمات المجتمع المدني، وتنظيم احتجاجات شعبية ترفع شعارات الثورات الملونة، يتم التعاطف معها ودعمها من قبل الدوائر الغربية بذرائع نشر الديمقراطية وحماية المحتجين، حيث يتم إدخال مسلحين مدربين على حرب العصابات من أبناء الدولة المعنية أو من أبناء جوارها، يصاحب ذلك محاولات لاختراق الأجهزة الأمنية، وتفكيك مؤسسات الدولة من الداخل، لتتحول إلى دولة فاشلة، وثمرة ناضجة تسقط ضعيفة بيد مشاريع الإمبريالية العابرة للحدود..
من المهم الإشارة هنا بأن تركيا شريكة كازاخستان في “منظمة الدول التركية” قد وجدت نفسها خلال الأحداث في موقف متردد ومحرج بين أطراف الصراع، ولم تنجح رهاناتها على احتواء الاحتجاجات قبل التدخل الروسي.
وصدرت أصوات قلقة من أنقرة، تتخوف من أن تأثير الأحداث هناك، إلى جانب التدخل الروسي، أن ينعكس سلبا على علاقاتها ونفوذها وحضورها الثقافي والاقتصادي في كازاخستان وفي دول “المنظمة”، وآسيا الوسطى بشكل عام.
وهكذا تكون موسكو التي استفادت من التجربة الأوكرانية، وكم المعلومات الاستخباراتية التي حصلت عليها، قد نجحت حتى الآن في ردع وتفكيك معظم مرتكزات وأدوات الجيل الجديد من الحروب الأمريكية الأطلسية على حدوها الجنوبية ومجالها الحيوي.. وأعاقت سيناريو إشعال حالة من النزاع والتوتير المعادي يخلق بؤرة استنزاف، وضغط متواصل على موسكو لتقديم تنازلات للغرب، أو الانزلاق الى العنف والتورّط بالدم الكازاخية، والذهاب بالبلد الى مسار من العنف المستدام.
مآلات الأمور تتوقف الآن على الجهود التي ستبذلها الحكومة الكازاخية في نشر السلم المجتمعي القائم على الأمن الاجتماعي، ومحاربة الفساد في البنى الفوقية والمجتمع، وإرساء سياسة قائمة على العدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية، والتصدي للمخططات الإمبريالية.