ترتبط الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني مع حركة الاستعمار الغربي من حيث النشأة والتكوين بالرؤية الفلسفية العنصرية للاستعمار الغربي القائمة على تجريد الآخر من انسانيته، ووسمه بالتخلف كمبرر للجرائم التي يرتكبونها بحقهم وكمبرر لمصادرة حقوق الغير واستعمار أرضه، أما الحركة الصهيونية فإنها أضافت لذلك سردية أسطورية تبرر جرائمها ووجودها، لذلك كان التركيز مبكراً على إلغاء الوجود الفلسطيني ووضع فلسفة (شعب مكان شعب، ثقافة محل ثقافة، تاريخ محل تاريخ) كأساس للمشروع الصهيوني وهذا ما بدا واضحاً منذ انطلاق الحركة الصهيونية ووعد بلفور الاستعماري عام 1917 الذي جسد بوضوح عقلية تشرتشل العنصرية الاستعمارية في مقولته (وجود كلب على مذود لفترة من طويلة لا تعطيه الحق بملكيته، عندما يأتي شعب متقدم على شعب متخلف فله الحق في امتلاك الأرض)
حافظ العدو على رؤيته للصراع وثباته نحو إقامة كيان على كامل فلسطين “التوراتية” بالمقابل كان الطرف العربي والفلسطيني يغير رؤيته للصراع في كل منعطف وفي كل مرحلة من شعار (صراع وجود) إلى شعار (إزالة آثار العدوان) إلى تبني الفلسطيني (النقاط العشرة) إلى رفع وتبني سياسة غصن الزيتون وشعار (الميثاق كادو)، هذا المسلسل من الشعارات كانت تمهد أو تحمل في طياتها التمهيد للتنازل الأكبر المتمثل بتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 التي تنازل فيها الموقعون عن 78% من أرض فلسطين واعترفوا بالكيان وأضمروا قابليتهم للتنازل عن حق العودة.
من حقنا أن نسأل ونتساءل هل يحق لأي قيادة مهما كان تاريخها ومهما كان دورها أن تتنازل عن حق تاريخي للشعب الفلسطيني ؟ بل ومن أعطاهم شرعية التصرف بحقوق الفلسطينين ؟
مثل هذا السؤال يجب طرحه وبقوة لأن القيادة الحالية لا زالت تتصرف وبذات الرؤية والقابلية بل أثبتت أنها أكثر طواعية وتناغماً مع المطالب الأمريكية والصهيونية.
لم يكن الثالث عشر من أيلول عام 1993 يوماً عادياً بل كان بمثابة الشرارة التي أطلقت لإنطلاق الموجة الثانية للتطبيع مع العدو الصهيوني بعد الموجة الأولى التي أحدثتها معاهدة كامب ديفيد.
شكلت اتفاقية أوسلو اختراقاً للوعي الفلسطيني وارتباكاً لم يشهد مثله إلا في مرحلة ما بعد النكبة عام 1948، كان الحال أشبه بغيبوبة ما لبث أن استفاق منها لينهض متلمساً خطواته نحو التحرير لكن أوسلو وما مثله من اختراق نجح في خلق شريحة منتفعة مرتبطة بالاحتلال سرعان ما أخذت على عاتقها الدفاع عن المعاهدة وإيجابياتها وواقعيتها لتخفي مصالحها ودوافعها الأنانية والانتهازية الأمر الذي زاد من صعوبة مواجهتها والتصدي لسلوكها.
على الرغم من الجهود الهائلة التي بذلت لإخراج تلك الاتفاقية لخلق قبول شعبي وفصائلي لها إلا أن التوافق كان مستحيلاً بل أصبح الانقسام سيد الموقف بين نهجين، نهج يرى في التفاوض سبيلاً له ونهج يرى في المقاومة مثل كل شعوب الأرض التي ابتليت بالاستعمار نهجاً صائباً لتحرير الأرض ودحر العدو.
كان أوسلو بمثابة مستنقع الكل موجود فيه الرافض والقابل له، كل طرف يسعى لجذب الآخر لطرفه دون البحث الجدي للخروج من المأزق وصولاً إلى خيارات أخرى.
الخطير في الأمر هو استمرار التعايش والحال على ما هو عليه قد يقود إلى حالة من التوفيق بين النهجين لأن فلسفة السلطة تقوم على أساس الحوار من على قاعدة جذب الأطراف الأخرى للإلتزام بنهجها المتمثل (سلطة واحدة، سلاح واحد، مقاومة شعبية) أي باختصار نهج التفاوض خاصة وأن الفكر العربي مهووس بالفكر التوفيقي أو إبقاء الحال على ما هو عليه.
إن تمترس السلطة بالتمسك بموقفها لإنها في الجوهر تدافع عن مصالحها وتستند في قوتها على دعم قوى إقليمية ودولية لإنها ببساطة وفرت لهم غطاءً سميكاً لتبرير التطبيع الرسمي العربي أمام شعوبهم، فالهرولة نحو التطبيع وتوقيع اتفاقية ما عرف “بالسلام الإبراهيمي” ما كان له أن يتحقق وبهذا السفور لولا نهج السلطة.
أما في الأردن اندفع الحكم وبصورة سريعة بعد اتفاقية أوسلو وفي خلال عام توصل إلى توقيع اتفاقية “وادي عربة” بكل ما فيها من عيوب وكأنه كان ينتظر كل هذه المدة ليكشف عن علاقاته المستورة سابقاً مع الكيان الصهيوني.
لقد استثمر الكيان الصهيوني تلك المعاهدات لخلق واقع جديد على الأرض من تنامي الاستيطان وتهويد الأرض واستثمار كل هذا الإنهيارالرسمي العربي لتعزيز أساطير سرديته والكشف عن أطماعه التوسعية.
ماذا بعد 33 عاماً توقيع أوسلو؟
أرى أن السؤال الأهم الذي يستوجب السعي الجدي للإجابة عليه على ضوء تجربة السلطة الطويلة في التفاوض مع الكيان هذا السؤال يتمثل بالإجابة على إمكانية أن يقبل العدو بالسلام؟ وأي سلام يريده هذا الكيان؟
أثبتت السنوات الطويلة من المفاوضات والحوارات والاتفاقيات أن “اسرائيل” بالحوار إلا لفرض رؤيتها، والقبول بسرديتها وشرعية وجودها، أي استسلام كامل وهذا ما بدى جلياً في مجمل ما تم التوصل إليه من اتفاقيات كان أخرها ما يعرف “بالسلام الإبراهيمي”.
لقد “إسرائيل” كانت منسجمة مع رؤية “جابوتنسكي” وبشكل خاص بعد مجمل التحولات نحو اليمين بشقيه الديني والعلماني بحيث أصبح الهاجس لهم تطبيق الرؤية التوراتية على مستوى الأرض – السكان – تهويد للأرض وارتكاب مجازر بحق السكان.
المفارقة أن الهرولة الفلسطينية والعربية نحو التطبيع زادت وتيرتها في ظل التشدد والتنكر الصهيوني بل والاستعلاء الصهيوني.
أوسلو مسار
أرى أن اتفاقية أوسلو ليست مجرد نصوص قانونية بل هي نهج ومسار فعل فعله على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا تزال فاعليته تتنامى حتى اللحظة، وإلا كيف نفسر قمع الفلسطيني لأخيه الفلسطيني متهماً إياه بالإرهاب؟ وكيف يحرم الفلسطيني شعبه من لقمة العيش ويصادر حريته؟ كيف يمكن فهم وجود سجين فلسطيني وسجان لنفس الهدف الذي ناضل من أجله هذا السجان سابقاً؟
لم تعد المسألة مجرد أسئلة أو تساؤلات بل أكثر من ذلك كله، إنها أشبه بالتآكل الذاتي محصلته تنامي قوة العدو الجاثم فوق الأرض.
أوسلو هي المسؤولة عن فتح الباب للرجعية العربية التي وجدت فيها ضالتها بالتعبير عن ذاتها وحماية ذاتها من شعوبها من خلال الاعتراف بالكيان والتطبيع معه.
عندما تم التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993 كان عدد المستوطنين 150000 ألفاً الآن تجاوز 750000 ألفاً على مساحة 600000 ألف دونم أي ما يعادل 12% من مساحة الضفة.
كانت “إسرائيل” تمارس قضم الأرض وتزيد الاستيطان وكان الطرف الفلسطيني الذي وقع على أوسلو شريكاً صامتاً لا حيلة له سوى التباهي بنجاحه وتمسكه بالتنسيق الأمني.
إن الصراحة والوضوح قد تكون مؤلمة وقاسية ولكنها بالتأكيد هي الأسلوب الأنجع في مواجهة الواقع لإن رش العطر على الجرح المتعفن لا يعالجه ولا يلغي رائحته ومخاطره، فلا بد من تنظيف الجرح جيداً.
لقد شكلت الحركة الوطنية الفلسطينية رأس الرمح في التصدي للمشروع الإمبريالي الغربي الصهيوني، وعندما كانت في عافيتها تعافت حركة التحرر العربية والعكس صحيح.
من هنا تبرز الأهمية القصوى لمداواة جراح الحركة الوطنية الفلسطينية والقضاء على كل عناصر الخلل التي تعيشها لتشكل رافعة حقيقية لحركة التحرر العربية.
كان من المفروض أن يكون اليسار هو الأكثر استعداداً لرفع راية النضال والاستمرار بها بعد أن دخل اليمين في مساومة تاريخية ومدمرة مع الكيان الصهيوني، لكن للأسف كان اليسار مأزوماً وعاجزاً عن القيام بذلك الدور فاكتفى برفض التسوية دون الولوج في مرحلة البحث الجدي والفاعل لإسقاط تلك التسوية ورموزها.
ومما زاد في ضعف اليسار وإرباكه أنه رفض أوسلو ولكن استمر في التعامل مع مخرجاتها ورموزها تحت مبررات الوحدة الوطنية ورأب الصدع باعتبار أن الوحدة متطلب رئيسي للنجاح في مواجهة العدو.
هذا الامر صحيح ولكن الأمر الأكثر صحة هو أن هذه الوحدة تتطلب وبالضرورة أن تزيل كل أسباب الانقسام وأن تكون واضحة حتى لا يشكل هذا التعافي غطاء لتنامي كل عناصر العبث والتخريب الذاتي وبالتالي فرصة لتعزيز نهج التفريط والاستسلام.
لقد بات واضحاً أن التلاعب بما اعتبر ثوابت للشعب الفلسطيني هو الذي مهد لما نحن فيه، الأمر الذي يفرض على كل طرف ومكون من مكونات الشعب الفلسطيني الإعلان الواضح والصريح لرفض نهج ومكونات اتفاقية أوسلو.
والمسألة الأخرى هي العمل تتمثل بالاتفاق على الهدف الاستراتيجي للشعب الفلسطيني المتمثل في تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني وعدم إخضاع هذا الهدف لتنازلات تكون محصلتها تقويض الهدف الاستراتيجي.
وعليه يجب الانطلاق من مبدأ أننا حركة تحرر وطني وجزء لا يتجزأ من حركة التحرر العربية وأننا شركاء في معركة التصدي للمشاريع الإمبريالية التي تستهدف أمتنا ومنعها من التطور.
سعت السلطة ومنذ نشاتها على قمع الشعب الفلسطيني واحتوائه وبالتالي الحد من قدرته على المشاركة في مواجهة العدو الصهيوني، الأمر الذي يعرقل من إطلاق طاقات الشعب وتوحيد الجهد كما حصل في معركة “سيف القدس” حين توحد الشعب في كل أماكن تواجده وانصهر الجميع في عملية المواجهة كل حسب ظروفه.
من هنا فإن التصدي لسياسة كي الوعي التي مورست من جهة العدو الصهيوني والسلطة بحق الشعب الفلسطيني باتت ركيزة مهمة للإنطلاق.
ختاماً أعيد وأوأكد أن استمرار حالة التعايش مع أوسلو من شأنه تعميق المأزق الفلسطيني،وتعميق مأزق اليسار.
لا بد لنا من مسار جديد يتجاوز القديم الذي ثبت لنا جميعاً أنه عدى عن وعورته فإن آفاقه مغلقة تماماً.
لتصفح العدد اضغط هنا