”اكذب اكذب حتى يصدقك الآخرون ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك”، كلمة قالها جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي، وتبنتها أمريكا وإدارتها المتعاقبة.
صرّح الرئيس الأمريكي جو بايدن من البيت الأبيض، قبل يومين، قائلًا: “لدينا سبب للاعتقاد بأن القوات الروسية تخطط وتنوي مهاجمة أوكرانيا في الأسبوع المقبل، في الأيام المقبلة”، مضيفًا أن الولايات المتحدة تعتقد أن روسيا ستستهدف العاصمة الأوكرانية كييف. وقبل ذلك، كانت وسائل إعلام غربية قد ذكرت، وخلال الأشهر القليلة الماضية، نقلًا عن الرئيس الأمريكي بايدن و”مصادر رفيعة المستوى”، عدة تواريخ لما وصفته بـ الغزو الروسي على أوكرانيا، الذي تزعم الإدارة الأميركية أن روسيا تخطط له.
وفي غضون ذلك، يواصل الغرب تزويد كييف بالأسلحة بنشاط كبير. وكلما تحدثوا عن الحاجة إلى تنفيذ اتفاقيات مينسك، زاد انتهاكها في كثير من الأحيان.
أما روسيا فقد نفت، مرارًا وتكرارًا، وجود مثل هذه الخطط، ودعت وسائل الإعلام والسياسيين الغربيين إلى التوقف عن تصعيد الموقف.
روسيا والأزمة الأوكرانية والنظام العالمي
في خضم الصراع الدائر بين الدول الكبرى على الهيمنة الإقليمية، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تعهّد قبل 21 عامًا عند وصوله إلى السلطة بإعادة روسيا إلى دورها الصحيح كقوة عظمى، وذلك بعدما كانت روسيا قد فقدت أسبقيّتها الإقليمية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، وخاصة في ظل سعي الولايات المتحدة المتواصل لتوسيع مجال نفوذها العالمي، وذلك عبر فرض إجراءات على مختلف دول العالم.
وبالطبع في ظل التزام بوتين بإعادة تموضع روسيا، فإن الإدارة الروسية ستسعى إلى إعادة الهيمنة الإقليمية بغض النظر عن الإجراءات الأمريكية، خاصة وأن روسيا المتعافية تهتم بالدرجة الأولى بالتفوق في منطقتها المباشرة أكثر مما تهتم به الولايات المتحدة، وهي مستعدة لتقاتل من أجل ذلك، لذلك يرى محللون أن الدول الغربية لن تتدخل هناك.
أما عن الأزمة الروسية – الأوكرانية الحالية، فمن الممكن القول إن سعي العالم الغربي لضم كييف إلى الناتو، وبالتالي الوصول إلى حدود موسكو، يضع روسيا في موقف لا خيار أمامها فيه سوى الدفاع عن مصالحها، وهذا فضلًا عن سعيها من أجل كبح جماح الولايات المتحدة والغرب بعيدًا عن حدودها.
ومن ناحية أخرى، تستخدم روسيا أوكرانيا كدافع للقوى الغربية في رفع العقوبات السياسية والمالية المختلفة التي تفرضها الولايات المتحدة ضدها، فبحسب مختصّين فإن الحديث عن هجوم روسي على أوكرانيا من شأنه أن يطرح على الطاولة المزيد من المحادثات الدبلوماسية التي قد تؤدي إلى تنازلات بشأن هذه العقوبات، ويرى متابعون أنه في حين أن غزوًا واسع النطاق لأوكرانيا غير مرجح، فقد تجدد روسيا القتال بين الجيش الأوكراني والموالين المدعومين منها في شرق أوكرانيا.
وفي هذا السياق، يرى الكاتب والمحلل السياسي جمال العلوي أن الحرب على أوكرانيا لا علاقة لها بالحسابات الاقتصادية الروسية ومعايير المقاطعة أو العقوبات، بل تدخل في إطار الأمن الروسي، لذا فإن روسيا مستعدة للمضي قدمًا فيها إذا لم يتوفر لها أي ضمانات تبعد أوكرانيا عن الدخول في الناتو، ويستدرك العلوي قائلًا: “علينا تذكر ما حدث في القرم التي تشكل معبرًا للغاز الروسي نحو أوروبا، في لحظة خاطفة أعلنت روسيا ضم القرم لروسيا وأدخلتها ضن الحدود الجغرافية للدولة الروسية دون النظر لأي حسابات أو مخاطر دولية، وهذا الأمر سيتكرر مع أوكرانيا إذا تقاطعت مع حسابات الأمن القومي الروسي”.
السبب وراء الحديث المستمر عن الغزو الروسي على أوكرانيا، والمطالب الروسية
تسعى الإدارة الأمريكية، من بين أمور كثيرة، إلى دعم الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، بعد انخفاض نسبة التأييد الشعبية له وسط انتقادات لسياسته الاقتصادية، ووفق وسائل إعلام أميركية فإن إدارة الرئيس جو بايدن تُضخّم الوضع حول أوكرانيا من أجل صرف انتباه الجمهور عن عدد من الإخفاقات والوضع المؤسف في الداخل الأمريكي؛ فنمو التضخم والمشكلات الاقتصادية المحلية هما أمران يهتم بهما الناخبون أكثر بكثير من التدخل في أوكرانيا.
وفي ذات السياق، يقول محللون إن الإدارة الأميركية تريد تقديم جو بايدن على أنه “منقذ أوروبا” من العدوان الروسي الوشيك المزعوم، ويُعلّق العلوي على المزاعم الأميركية قائلًا: “لا يوجد خطر حقيقي على أوكرانيا؛ الجميع يصل إلى حافة الهاوية دون التورط في خوض معركة أو حرب، لا حلفاء أوكرانيا جاهزين للحرب ولا على استعداد لخوض حرب الكل خاسر فيها، والتلويح بها أشعر كل الأطراف بخطورة الموقف لذا لن تكون هناك حرب في المدى المنظور”.
وعلى الطرف المقابل، تريد روسيا اليوم ضمانات أمنية صريحة وملزمة قانونًا، من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، بعدم انتشار قواعد للناتو على الأرض الأوكرانية وعدم انضمامها إلى الناتو، وهذا ما دفعها إلى تقديم مشروعي اتفاقيتين تسعى فيهما للحصول على تلك الضمانات، وتتألف المسودة من شقّين اثنين: معاهدة مع الولايات المتحدة واتفاقية مع الناتو.
معاهدة مع الولايات المتحدة؛ تحتوي مسودة المعاهدة على ثماني مواد، بعضها يدعو إلى قيود مشددة على الأنشطة السياسية والعسكرية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
المادة 4، تدعو حلف شمال الأطلسي إلى إنهاء توسعه شرقًا، وتحديدًا رفض العضوية المستقبلية لدول ‘الاتحاد السوفيتي السابق”، مثل أوكرانيا. كما ستمنع الولايات المتحدة من إنشاء قواعد في دول “الاتحاد السوفيتي السابق” أو التعاون عسكريًا معها.
أما المادة 5، فستمنع كلا الموقعين من نشر الأصول العسكرية في مناطق خارج حدودهما الوطنية والتي “يمكن أن ينظر إليها الطرف الآخر على أنها تهديد لأمنه القومي”. تمتنع القاذفات الثقيلة و “السفن الحربية السطحية من أي نوع” عن الانتشار خارج المجال الجوي الوطني للطرف أو المياه الإقليمية إلى المناطق التي يمكن أن تضرب فيها أراضي الطرف الآخر.
فيما تدعو المادة 6 الأطراف إلى قصر نشرها للصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي تُطلق من الأرض على أراضيها، وفقط في المناطق التي لا تستطيع فيها ضرب أراضي الطرف الآخر.
وستمنع المادة 7 الأطراف من نشر أسلحة نووية خارج أراضيها وستتطلب تفكيك البنية التحتية للأسلحة النووية ذات الصلة في دول الطرف الثالث.
اتفاقية مع الناتو؛ تحتوي مسودة الاتفاقية على تسع مواد، بما في ذلك العديد من المواد التي تدعو إلى تنازلات عسكرية دراماتيكية من التحالف عبر الأطلسي.
المادة 4، من شأنها أن تقسم فعليًا بين الدول الغربية والشرقية لحلف الناتو. ستحظر دول الناتو التي كانت أعضاء في الحلف اعتبارًا من عام 1997 (مجموعة تستثني جميع الأعضاء الشرقيين تقريبًا) من نشر أصول عسكرية إلى “أي من الدول الأخرى في أوروبا” بما يتجاوز ما نشره هؤلاء الأعضاء بحلول عام 1997. مثل لا يمكن أن تتم عمليات الانتشار إلا “في حالات استثنائية” وبموافقة روسيا.
وتحظر المادة 5 على الطرفين وضع صواريخ أرضية متوسطة وقصيرة المدى تطلق من الأرض في مناطق يمكن أن تضرب الأطراف الأخرى.
أما المادة 6 تقيد الناتو “من أي توسع آخر”، بما في ذلك قبول أوكرانيا.
وتحظر المادة 7 أعضاء الناتو من القيام بأي نشاط عسكري في أوكرانيا، وكذلك في دول أوروبا الشرقية الأخرى وتلك الموجودة في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى.
هل جعلت الدبلوماسية الحرب في أوكرانيا أقل احتمالًا؟
من المؤكد أن موجة النشاط الدبلوماسي غير المسبوقة في الأسابيع الأخيرة تبدو أحيانًا وكأنها محاولة يائسة لكسب الوقت في الأزمة الأوكرانية، من خلال الحديث عن أي شيء وكل شيء، لكن لم يحصل أيّ منها على أدنى تنازل من القيصر الروسي، وهذا الرفض الروسي، هو في الحقيقة فشل لحاملي هذه المقترحات التي لا عنوان لها سوى “إخضاع موسكو وإجبارها على قبول تهديد أمنها القومي”.
وحول زيارة الرئيس الفرنس إيمانويل ماكرون الأخيرة لروسيا يقول عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني، الدكتور موسى العزب، إنه بعد نهاية الاجتماع، وخلال مؤتمرهما الصحفي المشترك الذي تم تنظيمه في الكرملين، لم يتحدث الرئيسان كثيرًا، ورغم ذلك فقد عبرا عن رغبتهما المشتركة في فعل كل شيء لتجنب الحرب في أوكرانيا، وقد تمسكا بمواقفهما بشأن الأزمة الحالية بشكل شبه كامل.
وأشار الدكتور موسى العزب إلى أن الرئاسة الفرنسية قلصت مقدمًا من التوقعات المنتظرة من الزيارة في محاولة لإعطاء بعض الأمل في الحصول على بعض التنازلات من بوتين حتى ولو كانت هامشية، وقد طالبت الرئاسة الفرنسية بإبقاء القناة الدبلوماسية “مفتوحة” حتى أنها لم تطلب من رعاياها مغادرة أوكرانيا كما فعلت دول غربية عديدة، وذلك كرسالة حسن نوايا تجاه موسكو.
في سياق متصل، يرى الدكتور موسى العزب أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية على الأبواب، ويريد ماكرون أن يسجل نقاطًا لصالحه أمام الشعب الفرنسي، وخصومه السياسيين، كرجل دولة فاعل ومبادر، ولكن يبدو بأنه لم يحصل من بوتين على شيء محدد أو وعود ملموسة. فأعلن عن ارتياحه لمجرد حصول المناقشة العتيدة، وكأن إقامة حوار مع الرئيس الروسي “وبناء إطار عمل مشترك جديد لنزع التوترات في أوروبا الشرقية”، كان بحد ذاته الهدف الأساسي الذي سعى إليه الرئيس الفرنسي في موسكو! هذا وسط نداءات من المعارضة الفرنسية اليسارية وأنصار البيئة، بضرورة خروج فرنسا من اصطفافها مع معسكر الأطلسي إن أرادت أن تلعب دورًا فاعلًا في الشأن الأوروبي والدولي بشكل عام.
بينما تقوم عدد من وسائل الإعلام اليمينة و”الليبرالية” المؤثرة بتبني مواقف التهويش والتحريض الأمريكية، وتطالب الحكومة باتخاذ مواقف أكثر حسمًا تجاه موسكو.
بحسب تحليل لمصادر مقربة من الرئاسة الفرنسية، فالأزمة في أوكرانيا لم تكن بسبب مواقف موسكو، فمعظم الدول الأوروبية صاحبة القرار تدرك “أنَّ روسيا لم تكن هي المبادرة في التصعيد، ولكنّهم الغربيون، من خلال الاقتراب من الحدود الروسية”.
ومن جه أخرى، يظهر انجرار دول أوروبية وراء حفلة التضليل الأميركية، في تبنّي موجة التهديد بالحصار والعقوبات والعزل ضد موسكو، فيما أخذ البعض على الرئيس الفرنسي بأنه لا يمكن أن يقدم نفسه كوسيط بين أوكرانيا وروسيا، بينما هو منحاز بالكامل إلى الحلف الأطلسي، وأن التوسط يحتاج للحياد وامتلاك القرار السيادي.
ويختم الدكتور موسى العزب بالقول إن “واقع الحال لم يكن بهذه السلاسة، فقد أخذ البعض على ماكرون ذهابه منفردًا إلى “عرين القيصر الروسي” كما جاءت الزيارة بينما كان بايدن يعقد اجتماعًا مع المستشار الألماني، ويهدد بإغلاق خط الغاز الروسي، حيث عقبت الصحافة الفرنسية على هذه المفارقة؛ بأن بايدن قام بإرسال ماكرون إلى موسكو لينصب له فخا خبيثا هناك، يزيد من خلط الأوراق، ويعمق من عداوة أوروبا لروسيا!”.
في المحصّلة، إن الحديث عن حرب شاملة هو أمر بعيد حتى الآن، فالأطراف الإقليمية والدولية الداخلة في الصراع غير مستعدة لحرب مفتوحة، وهنا يرى المحلل السياسي جمال العلوي أنه لا حرب في المنظور العاجل، وعلى أوكرانيا تبديد المخاوف لدى الجار الروسي حتى تتجنب الحسابات الخاطئة أو تعرضها لمخاطر ليست في الحسبان.
وعلى الرغم من ذلك، تبقى السيناريوهات كافة مطروحة، ويبقى هناك عوامل أخرى قد تؤدي إلى الحرب، منها عوامل الاستفزاز الغربي، كما أنَّ هناك عوامل قد تؤكد الذهاب نحو الخيار الدبلوماسي، ومنها أن أوروبا مضطرة إلى فتح قنوات دبلوماسية مع روسيا، لأنَّ الأخيرة تمسك ورقة الطاقة التي تحتاجها أوروبا.