لن تسقط ثورة لها حكيم، يعالج آلامها ويجبر كسرها ويقوّم اعوجاجها

شادي مسعود
5 دقيقة وقت القراءة
الحكيم جورج حبش

أفكار راودتني عن جورج حبش، منذ أن سمعت اسمه لأول مرة: لماذا يحمل هذا اللقب؟ من أين اكتسبه؟ ربما لأنه كان طبيباً؟، ولكن في ثورتنا العديد من الأطباء، قادة وشهداء وأسرى، لماذا كان هو الحكيم؟

“الحكيم في معاجم اللغة العربية هو الشخص الذي يتصف بالروية والرأي السديد في القول والفعل، فلا يقول إلا صواباً، ولا يفعل إلا ما هو صحيح ومعقول بعيداً عن قرارات العاطفة”، وكأن معاجم اللغة حين وضعت هذا التعريف كانت بوصفها تذكر لنا حكيمنا ورفيقنا جورج حبش، فلقد كان الوحدوي العقلاني المتأني في كل ما فيه مصلحة لشعبه وثورته تارة، وتارة أخرى كان المُعارض الثائر المقاتل الشرس العدواني الحاقد على كل ما هو ليس في مصلحة رفاقه ووطنه، حتى كانت وصيته الأخيرة: “تمسّكوا بالمقاومة واستعيدوا الوحدة”.

كان حكيما لأنه كان راسخا كالجبل في وجه التغييرات والضغوطات العالمية العاصفة، كان حكيما لأنه كان يردد دائماً قول ماوتسي تونغ: “حتى تكون معلماُ جيداً عليك أن تكون متعلماً جيداً”، وكان قادرا على جمع التناقضات وتوليفها لصالحه فكان يردد دائما: “إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية”

كان جورج حبش نظرية ثورية في صورة رجل، ولقد أثبت للجميع بأنه كان يحمل نظريته الثورية الماركسية بقلبه ويعكسها على أفعاله وأقواله، فمن سوريا وتعرضه للملاحقة هناك والمكوث في السجون هناك لمدة عام حتى قام وديع حداد بعملية اختطاف لتحريره من السجن، إلى الأردن والعمل السرّي مع الدكتور وديع حداد وخطف الطائرات، إلى لبنان واجتياح بيروت ومقاومة جيش الاحتلال هناك، لم يَحِد الحكيم عن دربه حتى عندما تم اتخاذ قرار في الجبهة الشعبية بوقف عمليات خطف الطائرات ومخالفة وديع حداد لهذا القرار، وافق الحكيم على قرار تجميد عضوية رفيق دربه وديع حداد، إلى موقفه الصارم من اتفاقية أوسلو وكان رده على قول أن هذه الاتفاقية هي الممكن: “أن الثورة الفلسطينية قامت لتحقق المستحيل لا الممكن”، وقراره بتجميد عضوية الجبهة الشعبية في منظمة التحرير. حتى حين وصل الحكيم إلى مرحلة رأى بأن تنحيه عن قيادة الجبهة الشعبية سيكون فيه مصلحة أكبر لم يتردد جورج حبش في تطبيق هذا القرار وترك قيادة الجبهة طوعا وحبا للرفيق “أبو علي مصطفى”.

ويلخص الحكيم خبرته ودوره وتطبيقه للنظرية في جملة: ”في النهاية أقول إن جيلنا حاول ان يقوم بواجبه بصورة جيدة، أو أقل، أو سيئة، وبالتأكيد كان في إمكانه أن يعمل أفضل، وأن يعطي أفضل، وكان في قدرته أن يتخطى بعض الأخطاء الكبيرة، لكن هذا ما حدث، ونحن مستعدون لتحمل مسؤوليتنا وتحمل محاكمة الشعب والتاريخ مهما تكن قاسية، فالهدف في النهاية ليس حماية الرأس، وإنما عدم تبديد خبرة أعوام وعقود وتضحيات لا يمكن تعويضها.”

لا يستطيع أيّ شخص يعلم عن الثورة الفلسطينية ولو الشيء البسيط أن ينكر الدور القيادي الذي لعبه جورج حبش في توجيه المناضلين وفي خلق ثقافة ثورية وبندقية ممنهجة وليست مأجورة، وأنه كان مربيا وقورا لأجياله وللأجيال من بعده حتى يومنا هذا. أختم بوصف للقائد أحمد سعدات يوجز فيه عن الحكيم: “علّمنا الحكيم أن الحقيقة كل الحقيقة للجماهير ولمن يجادله في هذا الشعار كان يوضح، بأنه يدرك أن أمن الثورة وضروراتها توجب التكتم أحياناً…

علّمنا الحكيم أن الأخلاق بنية فكرية وسياسية ومسلكية وحذرنا من خطورة ترويج مقولة أن السياسة بلا أخلاق فإنه يفتح عمل الشيطان في كل شيء… علّمنا الحكيم الديمقراطية والتجديد، وقد جسّد الديمقراطية في علاقاته مع الجميع داخل الجبهة وخارجها، حتى أنه ابتدع مفهوم الطلاق الديمقراطي لمن وجد أنه لا يستطيع أن يستمر في الجبهة ومعها، وإحقاقاً للحق وللحقيقة وإنصافاً للحكيم فقد أراد أن يتخلى عن موقعه كأمين عام للجبهة منذ المؤتمر الخامس في 1993 ولكن إلحاحنا نحن رفاق الحكيم وتفاعله مع الانتفاضة المجيدة هو الذي أجل تنفيذ هذه الخطوة للمؤتمر السادس، إيمانه بحتمية انتصار شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية على هذه الغزوة الصهيونية وعلى كيانها في فلسطين كان راسخاً لم يهتز بالهزائم ولا بالنكسات وبكل هذا الزمن المجافي.”.

شارك المقال