بعد خمسة عشر شهراً من حرب الإبادة التي يرتكبها العدو “الإسرائيلي” على غزة، وخمسة عشر شهراً من المقاومة والصمود الأسطوري، يأتي الإعلان عن وقف إطلاق النار، ليكرس فشل الكيان في تحقيق الأهداف التي وضعها لحرب الإبادة، الفشل في القضاء على المقاومة والفشل في تحرير أسراه وأهمها الفشل في عملية التهجير.
لقد وضع طوفان الأقصى المنطقة والشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية أمام محطة هامة سيكون لها تداعياتها.
قدَّم الشعب الفلسطيني آلاف من الشهداء والجرحى والأسرى وأقدم العدو على تدمير ممنهج للقطاع، ومارس العدو ما يعرف بالقصف الاستراتيجي الذي يستهدف كسر شوكة الشعب وضرب معنوياته بغية الوصول إلى فرض مخططاته ومشاريعه.
لم يكن الطوفان معزولاً عن النضالات المتراكمة للشعب الفلسطيني عبر مسيرته النضالية الطويلة وتراكم خبراته في مواجهة العدو، وليس معزولاً عن السياسات الصهيونية الرامية إلى تهويد القدس وتهديد المسجد الأقصى وسياسات القتل والاعتقال ضد الفلسطينيين، الأمر الذي جعل من الطوفان رداً طبيعياً على ممارسات العدو ورداً على ما كان يخطط له.
إذا كان هذا هو السياق الذي ظهر فيه الطوفان فإن ردود الفعل عليه منذ انطلاقته سواءً الإيجابية أم السلبية استمرت حتى لحظة وقف إطلاق النار بل ازداد الجدل حول نتائجه بين من يعتبره انتصاراً ومن يعتبره دماراً ووبالاً على الشعب الفلسطيني، دون أن يدرك الطرفان أن ما جرى ليس حدثاً عادياً بل هو ينتمي إلى تلك الأحداث التي تفتح آفاقاً رحبة ومسارات عدة، وأن الأمور لن تقف عند حدود وقف إطلاق النار.
نقول ذلك، لأننا نفترض أن قراءة ما جرى يجب أن تنطلق من أننا أمام مشروع استعماري استيطاني وعنصري صراعنا معه صراع وجود، يستهدف فلسطين تماماً كما يستهدف عموم الوطن العربي، وأي قراءة غير ذلك فإنها تقود إلى أن يصطف أصحاب ذلك الموقف مع العدو نفسه بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي فإن الصراع بدون شك له أثمانه واستحقاقاته ولنا في تجارب الشعوب والثورات شواهد على ذلك، فالشعب العربي الجزائري قدم مليون ونصف مليون شهيد على مذبح حريته، وفيتنام قدمت أكثر من ثلاثة ملايين لدحر الإمبريالية الأميركية وعملائها في سايغون.
والمسألة الأخرى أن رئيس وزراء العدو حدد شعاره بإعادة بناء الشرق الأوسط الجديد والذي يعني بالنسبة له القضاء على المقاومة واندماج الكيان مع دول المنطقة بعد العمل على تقسيمها على أسس طائفية وعرقية.
هذه الرؤية الاستراتيجية للعدو، تضع كل قوى التحرر العربي أمام مسؤولياتها في الاستعداد لمواجهة أطماع ومخططات العدو.
من هنا فإن مفاعيل الطوفان بشقيها السلبي والإيجابي مستمرة، والعدو يحاول أن يستثمر هذه اللحظة المواتية بسبب التخاذل الرسمي العربي وبسبب تعمق التبعية للأجنبي وتشبع أوطاننا بالقواعد العسكرية الأجنبية، لذا يرى العدو في هذه اللحظة فرصته للسير بعيداً نحو بسط هيمنته على المنطقة.
لذلك نراه يندفع بآلته العسكرية القاتلة نحو الضفة مكرراً ذات النهج في تدمير المخيمات والبنى التحتية وقتل الشباب والاعتقال.
كل ذلك انتظاراً لمجيء إدارة ترامب ووعوده بالسماح بضم الضفة الغربية، الأمر الذي يعني أننا بعد وقف إطلاق النار في غزة سنكون أمام مواجهة مفتوحة في الضفة الغربية.
فالعدو “الإسرائيلي” يرى أن جائزته الكبرى هي الضفة الغربية، لذلك أعلن بوضوح عند تشكيل حكومته أن هذا العام عام الحسم، سواء لجهة تهويد القدس أو بناء ما يسمى بالهيكل وصولاً إلى ضم الضفة الغربية، وفي سياق التحضير لذلك اتخذ العدو مجموعة من القرارات التي من شأنها التمهيد لتلك الخطوة.
الكيان الصهيوني والتطبيع
يسعى الكيان وبشكل محموم لتعميم التطبيع واستكمال ما يسمى بالسلام الإبراهيمي وتوسيعه.
إن ما جرى في سوريا لا يمكن قراءته إلَّا في ذات السياق المتمثل بالسعي لضرب المحور المقاوم وفتح المجال واسعاً أمام التطبيع، وكان بمثابة الزلزال الذي هز المنطقة العربية ووضعها أمام احتمالات شتى سواء لجهة طبيعة الدولة ودورها الإقليمي وهويتها العربية، بل أن علينا أن نشعر بالقلق على مستقبل وحدة الدولة السورية إذا ما ربطنا طبيعة ما جرى في سياق الشرق الأوسط الجديد وما يعني هذا الشرق الجديد من فرض الهيمنة والذهاب نحو التقسيم على أسس مذهبية وعرقية.
هذه الرؤية بقدر ما تضرب الحقوق الفلسطينية وتؤسس لتصفية القضية الفلسطينية، فإنها تهدد الكيانية الأردنية من خلال سياسة التهجير التي يلوح العدو بها.
بما يعني أن مسؤولية كبرى تقع على عاتق الدولة الأردنية استعداداً للمرحلة من خلال تعزيز الوحدة الوطنية وإعادة النظر بالاتفاقيات التي وقعها مع العدو، وإلغاء القواعد الأجنبية في الأردن.
ولكن ممَّا لا شك فيه انه بالرغم ممَّا حققه العدو وما يمكن أن يحققه من اختراق رسمي فإن ما يقلقه هو تنامي المقاومة في الضفة الغربية، وانكشاف زيف السردية الصهيونية واتساع الرأي العام العالمي المؤيد للقضية الفلسطينية وتنامي الوعي لدى القطاع الشبابي والطلابي المؤيد للفلسطينيين وازدياد عزلة “إسرائيل،” بل إنها باتت في نظر العديد من دول العالم دولة مارقة.
تداعيات وقف إطلاق النار
مهما يكن من أمر فإن التوقف أمام حرب الإبادة ضد غزة، والصمود الباسل لأهل غزة ونجاح المقاومة في فرض وقف إطلاق النار، سيكون له تداعيات مهمة على مستوى الكيان الصهيوني حيث ستستعر الاحتجاجات والخلافات حول توجهات الحكومة اليمينية وخاصة بالعودة لقراراتها حول المحكمة العليا وانعكاس ذلك على النظام السياسي، ولعل العلاقة بين الجيش وما شابها من توتر خلال الحرب بين المستوى السياسي والجيش ستزداد وضوحاً خاصة في ظل سعي نتنياهو فرض سيطرته الكاملة والحد من نفوذ الجيش.
ونرى أن التناقض بين القوى اليمينية الدينية ونتنياهو سيتفاقم الأمر الذي سيقود إلى انهيار الائتلاف والذهاب إلى انتخابات مبكرة.
لقد كشفت حرب الإبادة عن مسألتين على المستوى العربي الأول تواطؤ بعض الأنظمة الرسمية العربية غير المسبوق والآخر ضعف الحركة الشعبية العربية وقواها السياسية بل عجزها عن القيام بدورها وما هو مطلوب منها، هذه الصورة برغم سوداويتها وفي ظل اتضاح صورة وأهداف العدو التوسعية فإنها بلا شك ستضع هذه القوى أمام ضرورة قراءة جادة لما وصلنا إليه من ضعف وهوان وتبعية وارتهان للأجنبي، وباتت الإجابة على سؤال ما العمل أمرا ملحا ولا فكاك منه، وباتت مهمة وواجبة وفرض عين حتى لا يبقى وطننا العربي مسرحاً للقوى الدولية تمارس فيه نهبا لثرواتنا وتتحكم في سياساتنا وقراراتنا، هذه المهمة تنطلق من القناعة من أننا بتنا أمام مهمة تحرر قومي وان استقلال دولنا ليس إلَّا مجرد شكل بلا مضمون حقيقي، وأن الحديث عن جبهة عالمية مناهضة للصهيونية ضرورة ملحة خاصة بعد انكشاف زيف الصورة التي رسمتها الصهيونية لنفسها كضحية، وأن ما تقوم به هي ممارسات إبادة من أجل ديمومة استعمارها لفلسطين وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه وحقه في تقرير المصير.
سيكون الشعب الفلسطيني أمام سؤال الحفاظ على الوجود وتحفيز القدرات الذاتية لتطوير أشكال المقاومة، خاصة في ظل حقيقة أبرزها الطوفان من أن هزيمة الكيان ممكنة.
إن تعزيز هذه الإمكانية وتحقيق الانتصار على العدو لها شروطها، أولها الوحدة الوطنية على أساس برنامج مقاوم تنصهر فيه كل عناصر القوة للفلسطينيين.