في 25 تموز/يوليو 2012، تحدث الرئيس التركي خلال لقاء تلفزيوني عن “مزحة” بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. قال أردوغان بأن بوتين سأله ممازحاً: “ماذا تفعلون في الاتحاد الأوروبي أو ما الذي تريدونه من الاتحاد الأوروبي؟”، فأجابه ممازحاً أيضاً: “أدخلونا منظمة شنغهاي وسنراجع انضمامنا إلى الاتحاد الأوروبي”.
مزحة تحولت إلى واقعٍ في السنوات اللاحقة، بعد حصول تركيا على صفة “شريك حوار” في المنظمة التي تضم روسيا والصين والهند وباكستان وإيران وقرغيزستان وطاجيكستان وكازاخستان وأوزبكستان، فإن دبلوماسياً روسياً حذّر من أن الطريق قد لا يكون سلساً بسبب عضوية تركيا في حلف الناتو.
وهذا يعني بأن معايير شنغهاي تشمل عدم كون الدولة تنتمي إلى الكتل المعادية أو الموجهة ضد أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون… كيف ستُقبل تركيا وهي عضو في الناتو الذي أعلن أن روسيا ليست خصماً له فحسب، بل هي العدو رقم 1 أيضاً؟
ونحن نتكلم عن تخلص تركيا من التبعات الغربية وتأثيراتها، بات على أنقرة التوجه إلى سياسات أكثر وضوحاً في ظل تحولات وانقسامات دولية تضع مسألة “التغريب” في تركيا؛ المسألة التي أوصلتها إلى “الناتو”، أمام سؤالٍ مصيري: هل التغريب حاجة أم وسيلة؟ وما مقوماته؟ هل تم فرضه؟ متى بدأ؟ وما الرابط بينه وبين مصالح الغرب في المنطقة؟ هل تحققت مصالح تركيا من خلاله؟ هل يمكن لتركيا التخلي عنه؟ وما المقومات المساعدة للتخلي؟
ولأنّ “التغريب” في دوره هو تياراً فكرياً بأبعاد سياسية واجتماعية وثقافية، هدفه صبغ حياة الأمم بأسلوب الغرب لفرض التبعية الكاملة للحضارة الغربية، فإن دراسة أثره في تركيا خلال مرحلة الجمهورية وما بعدها، وما ورثته عن السلطنة العثمانية في هذا الشأن قبل ذلك، مهم ومطلوب في محاولة البحث عن أجوبة.
يرى البعض بأن “التغريب” التركي لم يبدأ بالكمالية، وإنما في السلطنة العثمانية بعيد انهيار “الإنكشارية” أمام “الحداثة الغربية”.. حيث تعدّ عملية حلّ فرقة “الإنكشارية” في الجيش العثماني عام 1826 بعد ما سمي في حينها بـ”الملحمة الخيرية” مرحلة فاصلة في تاريخ الدولة العثمانية، ولا سيما على صعيد تغيّر نمط عمل الجيش، الأمر الذي أثّر بشكل مباشر في مفاصل الدولة، ليس في الجانب العسكري فحسب، بل والسياسي أيضاً.
يرى الباحث قيس جواد العزاوي، أن “الإنكشارية” بمفهومها الفكري كانت فرقة ذات “طابع شرقي” باعتناقها الصوفية البكشتانية، ولكونها النواة العسكرية المرتبطة بالمجتمع العثماني، وقامت عليها الدولة العثمانية في أوج اتساعها، فإن القضاء عليها تجاوز في خلفياته محاولة إحداث إصلاحات في الجيش على الصعيد العسكري إلى إحداث تغييرات في سياسة الدولة وفي هيكليتها الإدارية، وحتى الفكرية، ولا سيما أن تمرّد “الإنكشارية” على السلطان وقضاء الأخير عليها، جاء لسبب رفضها مقترحاته بشأن “جيش جديد” على النمط الأوروبي، إذ إن إلغاء “الجيش الإنكشاري” عام 1826 جاء بعد محاولة تنظيم المؤسسة العسكرية العثمانية الجديدة وفق نمط علاقات ونظم ومبادئ جديدة فرضتها ظروف التدريب والتعليم على يد خبراء عسكريين أوروبيين.
لكن ما اعتبره السلطان محمود محاولات لتنظيم الجيش، أعطى القوى الغربية مساحة تحرك واسعة عن طريق الخبراء المرسلين، وفق العزاوي، الذي يوضح أن الخبراء نقلوا، إلى جانب التقنيات العسكرية الحديثة، أفكاراً سياسية ودستورية مستحدثة وفق النظريات التي بنيت عليها الدول الأوروبية الناشئة في حينها.
هنا حصل اختراق للجيش العثماني تحت ذرائع التحديث والإصلاح. وفي الوقت ذاته، فإن هذا الاختراق مهّد لما بعده من ضعفٍ ووهن في الجيش العثماني، وهو ما أثبتته الوقائع التاريخية من توالي الهزائم العثمانية وحاجة اسطنبول المستمرة إلى مساعدة الغرب عسكرياً.
واللافت ضمن هذا المسار، أن توقيت إعلان “الإصلاحات” في هيكلية الدولة ودستورها كان يتزامن مع تعمق الأزمات و”الحاجة إلى الغرب”:
وهكذا فقد جاء مرسوم عام 1839 عندما احتاج العثمانيون إلى مساعدة أوروبية ضد محمد علي، وجاء مرسوم عام 1856 عندما احتاج العثمانيون إلى الدعم الأوروبي (فرنسا وبريطانيا) في أعقاب حرب القرم (1853-1856) ضد روسيا، وجاء دستور 1876 عندما كان الضغط الأوروبي من أجل التعديلات يتصاعد.
لكن الأخطر من حاجة إسطنبول إلى “النجدة” الغربية العسكرية المستمرة، وما يعني ذلك من تحكّم القوى الغربية في مصادر القرار، كان التحرّك الذي قادته قوى داخل الجيش العثماني، تتلمذت على يد الخبراء الغربيين على مدى عقودٍ لاحقة، والتي وضعت الجيش العثماني في مواجهة مستمرة مع السلطة الحاكمة، وأدت في نهاية المطاف إلى انهيار الدولة، بعد مجموعة من الانقلابات، ارتبطت بمشروع سياسي مدروس.
وللتفريق، فإن التمردات الإنكشارية على السلطان العثماني وعزلهم للسلاطين أو قتل بعضهم لم يكن بمنزلة انقلابات عسكرية بالمعنى السياسي المعروف، فلم يكن لديهم مشروع للاستيلاء على السلطة أو تغيير النظام السياسي، بقدر ما كانت لديهم أطماع مادية.. في حين أن الانقلابات التي حملت مشروعاً مرتبطاً بالغرب من الناحيتين السياسية والاقتصادية تحت مزاعم “الإصلاح الإداري” بدأت في مرحلة الربع الأخير من القرن التاسع عشر، إذ وقع نحو 6 انقلابات بتحريض من ضباط ووزراء الحربية والمدرسة الحربية بين عامي 1876-1913، أفرزت ضباطا منقلبين ليوائم نظام الدولة النظام الأوروبي، كما شكلت الأرضية التي استند إليها الغرب سياسياً وعسكرياً في دفع الإمبراطورية العثمانية نحو الانهيار والتقسيم.
لم تكن الإنكشارية بتلك القوة والولاء، لكنّ أفولها لم يكن نحو الأفضل بالنسبة للدولة، بل على العكس من ذلك تماماً؛ كان هدفه جر الدولة العثمانية، ليس نحو النمط الغربي، بل نحو ما يريده الغربي، بمعنى أن التدخل الغربي في الجيش العثماني أدى إلى تفكك الدولة وإضعافها، ليس لأن هذا النمط تم تطبيقه بشكلٍ خاطئ، بل لكونه غير قابل للتطبيق عثمانياً، وهو ما أدركه الغرب جيداً وعمل عليه للهدف الذي يريده.
ما بعد الجمهورية… “التغريب” وفوضى “الناتو”..
لم يكن انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمتها أمام “الحلفاء” والخبراء المندسين مفاجئاً بالمعنى السياسي والعسكري، فالمسار الذي سارت عليه السلطنة على مدى قرن كان يؤخّر الانهيار فقط ولكن لا يمنعه.
وبناء عليه، فإن دراسة العلاقة بين الغرب وتركيا وتأثيره على الأخيرة تتجاوز تساؤلات التدخل الغربي في تركيا، باعتبار أن هذا الأمر مفروغ منه، إلى ما تجنيه تركيا من تقاربها مع الغرب على حساب مصالحها الجيوسياسية في منطقة كانت ولا تزال هدفاً للغرب الاستعماري، مع الأخذ بالاعتبار أن محاولات فرنسا وبريطانيا تحديداً إسقاط السلطنة وتقسيمها كان لهذا الهدف.
لذا، فإن قراءة تاريخ تركيا المعاصر في مرحلة ما بعد إعلان الجمهورية، وتحديداً محاولات تقاربها مع الغرب والاندماج في سياساته، تتطلّب مقاربة موضوعية، توازن بين تلك المحاولات وانعكاسها على مصالح تركيا، وكان ذلك يتعلق بما يريده الغرب وليس تركيا.
وهكذا فإن توجّه السلطنة نحو الغرب، قد أسّس لمرحلة استطاع الغرب في نهايتها هزيمة العثمانيين وتدمير حكمهم، وإلحاق تركيا لسطوتهم.
ما قام به أتاتورك في مرحلة لاحقة كان تثبيت الهزيمة تحت عناوين جذّابة، من قبيل الجمهورية والديمقراطية، لكنه ذهب بعيداً في “تغريب” تركيا. ليس من الناحية الاجتماعية فحسب، بل السياسية والأمنية أيضا.
هذا “التغريب” لم يكن خياراً، وإن ظهر بهذا الشكل، بل كان أمراً فرضته الهزيمة أمام القوى الغربية، إذ أن أتاتورك ذاته الذي اتهم الغرب بأن لديه “نيات إمبريالية” تجاه بلاده، تحدث بعد الحرب عن أهداف الجمهورية المنشأة حديثاً على النحو التالي: “الوصول إلى مستوى الحضارات المعاصرة الحديثة”، قاصداً بذلك الغرب. علما أن “الحركة الوطنية في الأناضول كانت ضد نفوذ الدول الغربية، ولكن ليس ضد الفهم الغربي لبنية الدولة”.
ونسي هؤلاء بأن الغرب الاستعماري وإن كان يتحدث عن نموذج يريده للدولة، فإنه يبقيه ذريعة بهدف فرض نموذج لسياسة الدولة الداخلية والخارجية يتناسب مع مصالحه، فمهما بلغت هذه الدولة من “الديمقراطية والليبرالية”، فإنها تبقى خارج دائرة “الرضا الغربي” حتى تصبح لاعباً تحرّكه السياسات الغربية، وهذا ما يثبته المسار المتبع في “تغريب” نموذج الدولة التركية وصولاً إلى “تغريب” السياسة التركية وانضمام أنقرة إلى “الناتو” عام 1952.