نجح بعض الحكام العرب في تحويل الخيانة الى سياسة، وفي تبرير التعامل مع اسرائيل بإعتباره إبداعاً سياسياً، وفي إعتبار المصلحة الوطنية سلعة بيد الحاكم يتصرف بها كما يشاء، وتحوَّل َ أولئك الحكام بذلك إلى سماسرة للخيانة والعمالة، وأبطالا ً في القفز بين حبال الاستسلام من أجل الارتماء في أحضان أمريكا واسرائيل بوقاحة علنية تخلو من أي حياء حتى ولو كان حياءاً مصطنعاً .
يشارف النظام الدولي أحادي القطبية تحت القيادة المنفردة للولايات المتحدة الأمريكية على الزوال لصالح نظام متعدد القطبية تتشارك أمريكا مع كل من الصين والاتحاد الروسي وربما لاحقاً الهند والبرازيل في قيادته . هنا يبرز السؤال الاستراتيجي عن الحكمة وراء هذا التهالك العربي الذي يكاد يصل إلى حد ” الفزعة” التقليدية لإرضاء نظام دولي قيد السقوط تقوده الولايات المتحدة، والانصياع لرغباتها الى الحد الذي قد يؤدي الى الرضوخ والقبول بالدخول في حلف عسكري تكون اسرائيل جزأً منه ؟ لماذا تنقلب مفاهيم مثل الحصافة والحنكة السياسية والحفاظ على المصالح الوطنية، ويتم استبدالها على يد بعض حكام العرب بالاستسلام المتهور والفزعة الانبطاحية للرغبات الأمريكية ؟؟
يشعر الكثير من العرب بالخوف والقلق مما هو قادم خصوصاً وأن الأمر يتعلق بآخر قلاع عروبة واستقلال كل دولة عربية ألا وهو الجيش الوطني والمؤسسة العسكرية العاملة ضمن اطار العقيدة العسكرية العربية التي تعتبر أن الجندي الاسرائيلي هو العدو، واسرائيل هي الخطر الوجودي . والتطور الأخطر هو ما يجري من عبث بالعقيدة العسكرية العربية من خلال استبدال تصنيف الجندي الاسرائيلي من كونه العدو إلى إعتباره رفيق السلاح، والجيش الاسرائيلي الى اعتباره الحليف العسكري، و “اسرائيل” باعتبارها دولة حليفة يحق لها المطالبة بالدعم والحماية في حال تعرضها أو تعرض أمنها للخطر حتى ولو جاء ذلك الخطر حسب إدعائها من المقاومة الفلسطينية . كل ذلك ُيشَكَّل في الحقيقة قمة الانكسار والاستسلام العربي . ولكن لماذا يضع العرب انفسهم في مثل تلك المآزق ؟
تهرول الأنظمة العربية في منتصف شهر تموز القادم ( 15 July ) بشكل مخجل يدعو الى الأسى نحو الفخ الأمريكي – الاسرائيلي الذي يهدف الى جمع العرب بالعصا الأمريكية وسوقهم كالخراف نحو الخيمة الاسرائيلية في حلف عسكري جديد سوف يكون عملياً بقيادة اسرائيل وعضوية الأنظمة العربية المعنية وتحت شعار محاربة “الارهاب” بشكل عام والارهاب الايراني بشكل خاص . وهكذا ، فإن الحلف المنشود يهدف الى تحويل العقيدة العسكرية للجيوش العربية المنخرطة في الحلف من هدف حماية الوطن الى هدف ” مكافحة الارهاب” .
ايران لا تشكل خطراً عسكرياً ووجودياً على العرب بالقَدر الذي تشكله “اسرائيل”، ومع ذلك فقد جرى العمل بشكل حثيث على قلب الحقائق بشكل يؤدي الى تحويل أولوية الخطر على العرب من اسرائيل الى ايران . وهكذا يتم استبدال اطراف المعادلة الأمنية ومعادلة العداء والخطر المشترك من عداء وجودي بين العرب واسرائيل، واستبداله بعناوين وشعارات تتراوح بين أولوية “الخطر الايراني” و “محاربة الارهاب” والذي قد يشمل في يوم من الأيام المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي باعتبارها “ارهاباً فلسطينياً” ضد دولة عضو في الحلف . أما مناداة البعض بتأسيس نسخة شرق أوسطية من حلف الناتو فهي تهدف في الواقع إلى فتح الباب أمام دخول اسرائيل في حلف عسكري مع العرب دون أي عوائق أو تحفظات من جهة، وتكريس الخضوع والولاء العلني والكامل لأمريكا من جهة أخرى .
يهدف هذا الحلف العسكري الشرق أوسطي الجديد الى استبدال العقيدة العسكرية العربية بالعقيدة العسكرية الشرق أوسطية . والحلف العسكري يهدف أيضاً الى دمج القوات المتحالفة في عقيدة قتالية واحدة غالباً ما ستكون على النسق الأمريكي أو الاسرائيلي . وهكذا، فإن العقيدة العسكرية التي نشأت وتربت عليها الجيوش العربية وتنص على أن الجندي الاسرائيلي هو العدو وهو مصدر الخطر سوف يتم عكسها طبقاً للعقيدة العسكرية الشرق أوسطية الجديدة بحيث يصبح الاسرائيلي هو الحليف ورفيق السلاح وربما القائد العسكري باعتبار اسرائيل هي القوة الاقليمية الأقوى عسكرياً !!
إيران هي العذر المُحِلّ لتأسيس الحلف العسكري المنشود و لتولي اسرائيل بالنتيجة، و بإعتبارها القوة الاقليمية العسكرية الأكبر، قيادة هذا الحلف الاقليمي العسكري الموُجَّه ضد ايران باعتبارها الخطر الأكبر على الأنظمة المعنية . وهذا يعني ضرورة استمرار بقاء تصنيفها كخطر داهم ودائم يهدد المنطقة إلى أن تكتمل حلقة استيلاء اسرائيل على القيادة العسكرية للحلف المذكور وتكريس تلك القيادة بلا رجعة، عندها يمكن أن يصبح حسم موضوع الخطر الايراني واستبداله بخطر آخر مزعوم قد يكون تركياً أو روسياً ممكناً .
إن تنفيذ هذا المخطط قد يتم من خلال انضمام الدول العربية المرشحة للدخول في الحلف العسكري المنتظر مع اسرائيل وأمريكا الى القيادة الأمريكية الوسطى المسؤولة عن العمليات العسكرية في الاقليم الأوسط الذي يشمل 21 دولة تمتد من مصر غرباً حتى كازخستان شرقاً وتضم كل الدول العربية الواقعه في آسيا واسرائيل ودول أخرى . وهذا الوضع سوف يشكل الأرضية للعمل والتنسيق العسكري العلني والرسمي والمؤسسي بين دول الحلف العربية واسرائيل، الامر الذي سوف يتطور بالتالي الى تنسيق عسكري ومناورات مشتركة وعلاقات طبيعية بين الجيوش المشاركة . ويعتبر بيع السلاح الاسرائيلي الى بعض الدول العربية المشاركة أمراً طبيعياً سوف ينتهى بأن تصبح أمريكا واسرائيل الموردْين الرئيسيين للسلاح وقطع الغيار للعديد من الجيوش العربية .
وفي هذا السياق، فإن تقسيم الدولة السورية وإعادة تشكيل دورها الاقليمي بما يتناسب واهداف الحلف العسكري المنتظر هو أمر يتماهى بشكل واضح مع النوايا الأمريكية والاسرائيلية لمستقبل المنطقة . و ما يجري الآن من استدعاءٍ لشياطين الأرض للتواجد على الأرض السورية يهدف إلى تدمير سوريا وبالتالي حماية الأمن الاسرائيلي وحصر ايران وحزب الله في المستنقع اللبناني . واذا تطلب الأمر تقسيم سوريا فهو أمر سوف يحظى بالدعم الأمريكي كجزء من حرب طويلة لاستنزاف روسيا وتأخير سقوط نظام القطب الواحد . إن توسيع جبهة القتال يهدف إلى انهاء وجود روسيا العسكري والسياسي في سوريا أو تحويل سوريا الى أرض محروقة في معركة عسكرية استنزافية طويلة تدفع سوريا وشعبها ثمنها، ويكون الوجود والتواجد الايراني على الأرض السورية محكوماً لنتائج تلك المعركة .
باختصار، العرب وأوطانهم ومصالحهم ومستقبلهم هم الوقود المستباح في معارك اقليمية ودولية قادمة تستهدف مراعاة مصالح الآخرين على حساب العرب ووجودهم ومستقبلهم . أما حكام العرب فهم القوة المحركة لكل ذلك الخراب والانكسار الحالي والقادم .