يشكل البحث في الخلفية الفكرية لصراع الاستراتيجيات بين الشرق ممثلا بروسيا، وبين الغرب الامبريالي وأدواته مثل الناتو وغيره، منطلقا ضروريا لمقاربة الصراع السياسي والعسكري بين روسيا والناتو في أوكرانيا، وذلك منذ انطلاق العملية العسكرية الروسية داخل هذا البلد ولا سيما الخط الشرقي ودونباس، والخط الساحلي الجنوبي المطل على البحر الأسود، والذي يضم شبه جزيرة القرم وموانئ مثل ماريوبول وأوديسا.
وبحكم الاهتمامات الأمريكية المبكرة، لا تزال الإحالات المرجعية الأمريكية هي الأساس في هذه المقاربة، ومنها:
1- باحثو وكتّاب الأمن القومي الأمريكي:
– بريجنسكي، فيلسوف الامبريالية الأمريكية وعقلها الاستراتيجي (يشار أيضا إلى جذوره البولندية وما يعنيه العداء التاريخي بين بولندا وروسيا)، أما أبرز أعماله: رقعة الشطرنج الكبرى – خطة لعب – الاختيار – أمريكا بين عصرين.
– كيسنجر، وخاصة كتابه (النظام العالمي الجديد).
– جورج فريدمان، أمريكي يهودي يعتبر أهم باحث في المنصة الاستخباراتية (ستراتفور)، أما أبرز أعماله: المائة عام القادمة – الإمبراطورية والجمهورية.
2- باحثون وسياسيون أمريكيون آخرون:
– آلان توفلر، وخاصة في كتبه: صدمة المستقبل – تحول السلطة.
– جورج سوروس، صاحب ومؤسس (المجتمع المفتوح) والأب الروحي والمادي للثورات الملونة، وهو يهودي أمريكي.
3- مؤسسو الجغرافيا السياسية والجيوبولوتيك:
– الألماني راتزل 1844 – 1904، صاحب فكرتي الدولة بوصفها كائنا عضويا، والمجال الحيوي.
– الأمريكي الفريد ماهان 1841 – 1914، صاحب كتاب (قوة البحر والتاريخ).
– البريطاني هالفورد جون ماكندر 1861 – 1947، صاحب نظرية (المحيط أو الارتكاز الجغرافي للتاريخ)، ويرى أن القارات الثلاث القديمة شكلت جزيرة العالم (اوراسيا) ومن يسيطر على قلبها (الهارت لاند) يسيطر على العالم.
– سبيكمان 1897 – 1943، وهو أمريكي من أصل هولندي، عارض ماكندر ونظريته (الهارت لاند) بنظرية جديدة هي (rim land) وتعني حافة أو محيط أو إطار الأرض، وتستدعي التركيز على الامبراطوريات والقوى البحرية، بعكس الهارت لاند التي تركز على القوى البرية.
4- جغرافيون استراتيجيون آخرون:
– الروسي المعاصر الكسندر دوغين، وهو فيلسوف ومفكر سياسي متأثر بـ: دوستويفسكي، نيتشة, ماكندر، هيدغر، لينين، له: أسس الجيوبولتيك – مستقبل روسيا – النظرية السياسية الرابعة (بعد الليبرالية والفاشية والشيوعية)، ويرى أن سبب سقوط الاتحاد السوفييتي هو تخلفه عن الولايات المتحدة الأمريكية في البحر، فالبحر كما يقول يكمل البر في إطار اوراسيا التي تشكل روسيا قلبها، وهو من أنصار تعدد الأقطاب وحوار الحضارات والثقافات مقابل صراعها عند الأمريكي هنتنغتون.
– المصري جمال حمدان والصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، وذلك من خلال بحثهما عن تقاطعات استراتيجية مع الفكرة الاوراسية (الشرق الأوسط مع الشرق الروسي).
5- إحالات فكرية وروائية:
– المفكر الألماني هيغل في كتابه (ظاهريات الروح)، وانتقالها (الروح) من الطبيعة إلى الحضارة، حيث يرى أن ثمة أمما تنهض كلما تراجعت مثل روسيا، ذلك أن الدولة العميقة تكون قد دخلت أصلا في المرحلة العليا من الروح الموضوعي، أي الحضارة المتزامنة مع الثورة البرجوازية القومية.
– الروائي الإنجليزي أورويل، في عمله الروائي (1984) التي كتبها في 1948 وتناول فيها الآفاق العالمية للصراع الاوراسي.
– الروائي الروسي دوستويفسكي، وخاصة في روايته (الشياطين) 1870 والتي حذر فيها من تحالف الليبراليين واليهود لمنع روسيا من أن تتشكل كامبراطورية سلافية ارثوذكسية، وقد سماهم بالطابور الخامس.
انطلاقا من ذلك، راح بريجنسكي، وفق المرجعيات سابقة الذكر وتعليقاته حولها، يحذر من الصحوة الروسية ويدعو إلى استباقها من خلال منعها من أن تصبح لاعبا أساسيا في اوراسيا، بالنظر إلى موقعها في الهارت لاند، التي من يسيطر عليها يسيطر على العالم والنظام الدولي الجديد في كل مرة.
وتشمل اوراسيا بحسب المدراس والمقاربات السابقة (جزيرة العالم) 75 % من السكان والمساحة والموارد في العالم، وتقارب من حيث مركزها (قلب العالم وموقع روسيا فيه)، كما من حيث أطرافها، المجال الحيوي وإطار الأرض (أو الهلال الخارجي).
يقسم بريجنسكي اوراسيا بين:
– اللاعبون الأساسيون وهم روسيا – الصين – ألمانيا – فرنسا، ولا يعتمد اليابان وبريطانيا لتبعيتهما لأمريكا.
– ساحات أو محاور الصراع مثل أوكرانيا – أوزبكستان – كازاخستان – القوقاز – كوريا الجنوبية.
ويتابع هذا التقسيم من خلال الصراع بين الامبراطوريات البحرية والبرية، الأولى مثل أسبانيا والبرتغال ثم هولندا ثم بريطانيا ثم الولايات المتحدة الأمريكية، أما الثانية فأبرز مثال عليها هو روسيا.
الاستراتيجية الأمريكية لتطويق روسيا الاوراسية:
انطلاقا من التعاطي الأمريكي والأطلسي مع أوروبا الشرقية والبلدان الآسيوية الأخرى المحيطة بروسيا كساحات توظيف لا كدول، تمثلت الاستراتيجية الأمريكية بالنقاط التالية:
أولا، إنشاء عشرات المؤسسات والوحدات البحثية الاستخباراتية ذات الصلة، مثل: المنصة الاستخباراتية “سترات فور” التي يديرها جورج فريدمان، ومثل الوحدة الدراسية في مؤسسة كارنيجي ومن أشهر الباحثين فيها ضابط الاستخبارات السابق في مجلس الأمن القومي، ريتشارد سوكولسكي، ومثل الوحدات الخاصة بالشأن الاوراسي والأوكراني في جامعات أمريكية وبريطانية مثل هارفارد، اوكسفورد، بيركلي، وكامبريدج.
ثانيا، الخاصرة الأوكرانية التي سنتناولها بالتفصيل.
ثالثا، صناعة الانبعاث العثماني ليشكل حزاما أخضرا حول روسيا من الجمهوريات السوفياتية الإسلامية السابقة، وخاصة كازاخستان، مما يفسر الثورة المضادة التي نظمتها المخابرات الأمريكية فيها تحضيرا للأزمة الأوكرانية. ويشار هنا إلى أن أبرز مهندسي هذا الانبعاث هم من اليهود الأمريكان مثل: برنارد لويس، شتراوس، نوح فيلدمان، شارلي بينارد، وجورج فريدمان، بالإضافة إلى بريجنسكي.
رابعا، ضرب التفاهم الألماني – الروسي، وتشجيع المصالحة الألمانية – البولندية في المقابل، بالنظر إلى العداء التاريخي بين بولندا وروسيا، كما بين بولندا وألمانيا.
خامسا، محاولة ضرب التحالف الصيني – الروسي.
لماذا أوكرانيا في العقل الامبريالي الأمريكي:
أولا، قيمتها الجيوبوليتيكية بالنسبة لروسيا بصرف النظر عن الطبيعة الاجتماعية والأيديولوجية للحكم في موسكو، فبحسب بريجنسكي لا تستطيع روسيا أن تكون اوراسية بوجود أوكرانيا أطلسية.
ثانيا، علاقتها العضوية مع روسيا اجتماعيا وثقافيا ولغويا وتاريخيا، من الميلاد السياسي المشترك في كييف إلى ثورة أكتوبر وإعلانها جمهورية وضم أراض روسية مثل الدونباس والقرم لها بقرار أيديولوجي من الحزب الشيوعي السوفييتي.
ثالثا، أوكرانيا جزء من رقعة دومينو أو سلسلة تضم ليتوانيا واستونيا ودول أخرى في البلطيق وأوروبا الشرقية، فإذا سقطت بيد الناتو تداعت بقية السلسلة.
رابعا، التاريخ السياسي للنازية في أوكرانيا، منذ اجتياحها من القوات الألمانية في الحرب العالمية الثانية وتشكيل فصائل نازية عميلة للألمان، وهي الفصائل التي أعيد انتاجاها مجددا على يد الناتو باسم الجبهة الشعبية 1989 وتم توظيفها مع عصابات البلاك ووتر خلال الغزو الأمريكي للعراق، قبل أن تدفع إلى السطلة 2014 كجزء من تحالف الليبراليين والاوليجاركية اليهودية في كييف.
أبعاد أخرى للمشروع الأمريكي ضد روسيا الاوراسية:
ثمة أبعاد أخرى ضد روسيا الاوراسية في كل مرة شهدت صعودا ملحوظا في قلب اوراسيا، بعضها له جذور في التاريخ القديم، وبعضها له أبعاد أيديولوجية وإعلامية، وبعضها راهن
أولا، البعد الأيديولوجي ويتمثل في جانبين:
– صراع الحضارات كما في كتاب الأمريكي هنتنغتون والذي يضع روسيا الاوراسية الارثوذكسية السلافية في خانة العداء للغرب
– مقولة الشرق والغرب التي صاغها كيبلنغ، الذي يوصف بنبي الإمبراطورية البريطانية، وهي مقولة: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، وتتقاطع مع هذين الجانبين أفكار عنصرية تغذيها المالثوسية والداروينية الاجتماعية.
ثانيا، البعد التاريخي، الذي ينظر إلى موسكو الارثوذكسية منذ صعودها بعد سقوط بيزنطة (القسطنطينية) كروما شرقية جديدة ارثوذكسية، ويشار هنا إلى دخول الحملة الصليبية الأولى الكاثوليكية بيزنطة وهدم كنائسها ونهبها.
ثالثا، البعد الإعلامي الذي رافق كل المراحل التي شهدت صعودا روسيا، ففي القرن التاسع عشر شنت الصحافة البريطانية حملة على روسيا للتحريض ضد اقترابها من المياه الدافئة، رغم أن بريطانيا نفسها كانت تحتل هذه المياه، وفي القرن العشرين تم ترويج الفوبيا الشيوعية ضد روسيا، وفي القرن الحالي وتحت الخوف من روسيا الاوراسية راح الإعلام الغربي يركز على مفاتيح الدولة العميقة وشيطنتها وهي الرئيس والجيش.
رابعا، البعد الديموغرافي، انطلاقا من المخاوف الغربية من روسيا الاوراسية الواسعة التي تحتاج إلى كتلة سكانية كبيرة، جرى العمل على دفعها نحو سياسات الحد من النمو السكاني عبر تسويق المثلية مما يفسر اهتمام الرئيس الروسي بوتين بهذا الموضوع ومواجهته.
خامسا، البعد الاقتصادي، عبر تطويق وتجويف طريق الحرير الصيني وكتلة البريكس ومنع الأخيرة من استخدام العملات المحيلة في التبادل التجاري بين أطراف الكتلة. وكذلك من خلال الإدراك الأمريكي المتزايد من أن نجاح روسيا الاوراسية يعني تراجع الإمبراطورية البحرية الأمريكية الضامن الأساسي لهيمنة الدولار.
يضاف إلى البعد الاقتصادي توظيف تدفع اللاجئين ضمن استراتيجية الاستبدال التدريجي للعمالة في أوروبا، عمالة بيضاء مسيحية من شرق أوروبا وأوكرانيا بديلا عن العمالة القادمة من الجنوب العالمي.
الرد الروسي: الدفاع الاستراتيجي خارج الأسوار
انطلاقا من الفكرة الاوراسية التي تؤكد دور روسيا في النظام العالمي الجديد، بادرت روسيا الى اتخاذ الخطوات التالية:
1- تحويل أوكرانيا من عبء أمريكي على حدود روسيا إلى عبء على حلف الأطلسي، وضم القمح الأوكراني كسلعة استراتيجية إلى الطاقة الروسية كقوة ضغط على الغرب الرأسمالي، ويلاحظ كذلك التعاطي مع أوكرانيا بالشكل الذي قررته لنفسها موضوعيا، وهو شكل ساحة اشتباك وليس دولة.
2- قطع الطريق على المحاولات الأطلسية لضرب التحالف الصيني الروسي، وذلك علما بأن الصين نفسها جزء من المشروع الاوراسي لرسم عالم جديد لا تتحكم فيه الامبريالية الأمريكية.
3- قبل العملية العسكرية، رفع كلفة التنصل الأوروبي من الاتفاقيات الاقتصادية بتنويع وتوسيع خطوط النفط والغاز مع أوروبا بالتزامن مع توسيع التداخل في الكثير من الصناعات وتوريد موادها التحويلية أو الخام مثل النيكل والبلاديوم والالمنيوم.. الخ، ويشار هنا إلى اعتماد أمريكا نفسها على قسم كبير من النفط الروسي وتكنولوجيا الفضاء واليورانيوم المنضب.
العرب والعملية العسكرية الروسية:
أولا، من الزاوية الاستراتيجية فالعرب كما روسيا جزء من الشرق مقابل الغرب في العقل الامبريالي، كما جسده هنتنغتون وكيبلنغ.
ثانيا، في ضوء الصراع على روسيا كقلب للعالم الاوراسي وشكل النظام الدولي الجديد فإن مصير العرب داخل التاريخ مرهون بالتموضع في المحور الاوراسي، ويشار هنا إلى جانبين:
1- التطور الذي أجراه فيلسوف الاوراسية والهارت لاند، ماكندر، عندما عدل فكرته وقال إن هناك قلبين للعالم تربط بينهما المنطقة العربية بما تمثله من موقع وموارد وبعد حضاري عميق، كما يشار إلى فكرة الفريد ماهان (محيط الأرض مقابل الهارت لاند) التي تولي أهمية خاصة لموقع العرب في هذا المحيط.
2- المساهمات العربية على هذا الصعيد وموقع العرب في العالم الاوراسي، وخاصة مساهمة المفكر المصري جمال حمدان، وليس بلا معنى التشخيص المشترك لكل من جمال حمدان والروسي دوغين لأهمية سوريا كخط دفاع استراتيجي عن روسيا في حالة دوغين وعن مصر في حالة حمدان.
3- في الحقل السياسي المباشر ومقابل التاريخ الطويل لروسيا إلى جانب حركة التحرر العربية زمن الحرب الباردة، كانت أوكرانيا والفصائل النازية فيها من المشاركين في تدمير العراق عام 2003، بالتزامن مع إطلاق استراتيجية التفكيك الأطلسية للمشهد العربي وتقسيمه بين كانتونات متصهينة وولايات عثمانية.