“الحصار الاقتصادي”، سياسة حرب استعمارية

د.عصام الخواجا
6 دقيقة وقت القراءة

يشكل الحصار الاقتصادي، التجاري، والمالي المفروض على كوبا منذ عام 1960 وعلى فنزويلا منذ العام 2014، أداة حرب استعمارية إمبريالية، لا تقل ضراوة وتدميراً وأثراً من الحروب التقليدية بأدواتها العسكرية، فالولايات المتحدة الأمريكية لم تتوفر لها مقومات الاستهداف العسكري وتطويع كلا البلدين بالقوة، دون أثمان بشرية ومعنوية لا تقوى عليها، بالرغم من كونها أعتى إمبريالية عرفها التاريخ البشري.

إن إرادة الصمود والمقاومة والقتال لدى الثورتين الكوبية والبوليفارية شكلت توازن ردع، فرضت على الولايات المتحدة اللجوء إلى أشكال عدوان أخرى غير عسكرية، تمثلت بسياسة “الحصار”، وعملت على تشديده باستخدام أدوات “الحرب غير التقليدية” و”حروب الجيل الرابع” التي تمتلك مقومات تنفيذها، وتتفنن في تطبيقها، من خلال سياسة الخنق الاقتصادي، والقيود على الأرصدة وحركة أموال الدولتين ومؤسساتهما، والتضييق الصارم على حرية التجارة، التي تتشدق سياستها الليبرالية الجديدة بالدفاع عنها، ما تسبب في شح موارد الطاقة، ونقص المواد الغذائية، والأجهزة الطبية، والمواد الخام لتصنيع العقاقير والأدوية الضرورية وغيرها، كوسيلة لزعزعة الاستقرار وتقويض الأمن الاجتماعي والنيل من منجزات العدالة الاجتماعية التي تحققت، مصوبة سهامها في نهاية المطاف للنيل من سيادة كلا البلدين واستقلال شعبيهما وحكوماتهما الثورية.

أقل الوصف لسياسة “الحصار” هذه، أنها سياسة ابتزاز دنيئة، كريهة، ولا أخلاقية لإعادة فرض التبعية على دولتين تحررتا من هيمنة اليانكي السياسية والاقتصادية بإرادةٍ وقرارٍ شعبي، وبقيادة وطنية ثورية حازمة وقادرة على فرض خيار السيادة والاستقلال والكرامة والابداع في البحث عن حلول وبدائل لمواجهة تحديات الحصار الطويل والمستمر، دون القبول بتقديم تنازلات سيادية ومبدأية، ما فتح الطريق، وبرغم كل التحديات، أمام بناء نماذج جديدة من السلطة الشعبية والعدالة الاجتماعية على طريق تشييد الاشتراكية الإنسانية.

لا شك أننا أمام نموذجين، لكل منهما خصوصياته وسماته الهوياتية، الوطنية، والتاريخية، وليس أي منهما نسخة للآخر، يعكسان تجربتان تشقان طريقاً جديداً واحداً مشتركاً نحو حرية الشعوب وانعتاقها وتحقيق سيادتها واستقلالها الحقيقي، في الوقت الذي تُشَيد فيه كلاهما نموذجاً مبدعاً في التضامن بين الشعوب، وتبني أممية متجددة، مبنية على التعاون والتكامل وإعلاء مبادئ الانسانية، والانتماء إلى ملة البشرية كناظم للعلاقات الدولية والإقليمية دون هيمنة أو إملاءٍ أو فرضٍ لمصالحِ طرفٍ على آخر بالقوة.

لقد استطاع النموذج الكوبي احتواء جائحة كوفيد، برغم الحصار المجرم الذي كبد كوبا (11 مليون نسمة) خلال ستة عقود ما يزيد عن 144 مليار دولار، و 5.5 مليار دولار خلال السنة الأخيرة وحدها، بامكانيات وعقول وطنية خالصة، ونجح في تصنيع ثلاثة مطاعيم فعالة، وتمكن من تحصين غالبية السكان،  إضافة إلى تسجيل سبق أنها الدولة الأولى في العالم في تحصين الاطفال بين سن الثانية وسن الثامنة عشرة. كما أنها قدمت نموذجاً فريداً في التضامن مع الشعوب في أحلك الظروف، بإرسالها ٥٧ فريقاً طبياً إلى ٤٠ دولة لمكافحة الجائحة فيها، واثبتت للمرة الألف أن الارادة وقرار الانتماء للإنسانية والتضامن الاممي كقيمة أخلاقية ميزت التجربة الكوبية هو الأساس في نجاح الثورة وديمومتها، التي قال فيها القائد الخالد فيدل كاسترو، “نحن لا نوجه الاسلحة والقنابل وأدوات الموت ضد الشعوب، فتربيتنا وثقافتنا لا تفضي بذلك، بل تقوم على قاعدة انقاذ الحيوات وإرسال الأطباء والممرضين والمعلمين لمساعدة الشعوب الشقيقة المحتاجة لمساهماتنا المتواضعة”.

أما فنزويلا البوليفارية (30 مليون نسمة)، فتمكنت وبرغم تشديد إجراءات الحصار الاقتصادي، التجاري والمالي، الذي تسبب بتخفيض عائداتها من مبيعات النفط بنسبة 99% وتقليص عائدات مبيعاتها له بالعملة الصعبة إلى 1% مما كانت عليه قبل سريان العقوبات منذ 7 سنوات، (حسب إحصائيات رسمية ومفوضة الأمم المتحدة إلينا دوهان)، إذ كانت فنزويلا تستخدم 76% من عائداتها النفطية قبل الحصار، في تأمين الخدمات الاجتماعية وبرامج محاربة الفقر والرعاية الصحية والتعليم، والآن وخلال سنوات الحصار السبع لا تستطيع إنفاق ما هو أقل من 1% على هذه البرامج. هذا إضافة إلى احتجاز ما قيمته 130 مليار دولار من أرصدة الدولة الفنزويلية في العديد من البنوك الأروبية والأمريكية، و 31   طناً من الذهب في بنك انجلترا، ما يحرم الدولة من السيولة الضرورية لتوفير الغذاء والدواء وتطوير البنية التحتية.

لكن وبرغم قساوة ما تعنيه الأرقام التي أشرنا لها سابقاً، استطاعت الحكومة البوليفارية احتواء محاولات زعزعة الاستقرار الداخلي المتكررة، وإفشال محاولة الانقلاب الأخطر, عندما نصب “غوايدو” نفسه رئيساً تنفيذياً دون وجه حق شرعي أو دستوري، وإعلان الولايات المتحدة دعمها له ودولٌ أخرى مثلها في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وتمكنت فنزويلا البوليفارية من طي صفحة هذا الانقلاب بعقد انتخابات مجلس النواب نهاية العام ٢٠٢٠، الذي كانت تهيمن عليه المعارضة، واستعادة الغالبية الساحقة فيه من قبل الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد، وقلبت الطاولة في وجه الانقلابيين واليمين الفاشي الذي ينتمي له “غوايدو”.

في خلاصة هذا الاستعراض الذي يبين جزءاً فقط من أبعاد “سياسة الحصار” كسلاح تستخدمه الامبريالية الأمريكية ضد الشعوب والدول السيدة والحرة، يبرهن أنه ليس أقل ضراوة وتدميراً من العدوان العسكري والاحتلال الكولونيالي، ويؤكد أنه أداة حرب استعمارية، وشكل من أشكال الإبادة الجماعية، التي تستدعي موقفاً يفرض وقفها الفوري، ومحاسبة الإدارات الأمريكية التي مارستها وما زالت، لتطويع الشعوب وتكريس التبعية لسياساتها وخدمة مصالحها.

شارك المقال
الدكتور عصام الخواجا نائب الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني