ان الحلم بالمدينة الفاضلة مثلما هو متعارف عليه في الثقافة العربية الإسلامية يستدعي بالضرورة رؤية فكرية متناسقة، منهجا ومضمونا، وهذا العمل الفكري التنظيري لا تقوم عقول شغلها الوحيد الغذاء والجنس وجمع المال من كل حدب وصوب، بل هذا العمل الشاق تقوم به عقول راجحة لها من التفكير النقدي والسفر والترحال بين الثقافات ومنجزات الحضارات المختلفة، دينا ولغة وهوية.
إن الأجساد الحاملة لعقول راجحة مع الافق البعيد، زمانا ومكانا،، في النظر للأشياء والاشكاليات والمعضلات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بإمكانها الذهاب بعيدا وصياغة مقاربات لإخراج أي بلد أو امة من الأمم من انفاق الظلام والتخلف والتبعية للدول والامبراطوريات الكبرى المسيطرة في العالم ..و ادخال هذه الشعوب إلى قلب الحضارة المعاصرة عبر آخر منجزات الفكر الحديث وانجازات العلوم والتكنولوجيا..
من هنا، تلج هذه الشعوب مناطق الضوء والاستنارة وتبدأ رحلتها الطويلة من أجل تحقيق الرفاهية والتنمية والتقدم والعدالة الاجتماعية وإرساء مجتمع المواطنة النقيض للمجتمع الرعايا..
الأول مركزه حقوق الانسان بكل تعبيراته وسياقاته أما الثاني فلا يعترف بهذه الحقوق الكونية نظرا لغياب هذه الحقوق وكل القيم عن مرجعياته الفكرية وعقيدته السياسية. ان الاباطرة والملوك والامراء والرؤساء، على مدار التاريخ، لم يكن “الانسان” جوهر تفكيرهم واهتمامهم، بل غاب عنهم هذا الانسان المقهور والمغدور والمستغل نظرا لاعتبارهم هذا المخلوق الذي يتحكمون في مصيره هو في النهاية رعية وليس مواطنا حرا.
هذه الافكار كتب عنها الكاتبة المفكر المصري والعربي الكبير خالد محمد خالد في كتابه القيم “مواطنون لا رعايا “سنة 1951 قبل سنة واحدة من ثورة الرابع والعشرين من جويلية/اغسطس 1952 التي اخرجت مصر من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري بأبعاده الديمقراطية والاجتماعية. ليس بإمكان أي شعب في العالم أن يخرج من نفق الرعايا إلى اضواء المواطنة إلا بالفكر النقدية وابعاد المؤسسة الدينية عن السلطة السياسية والعمل السياسي.
الطموح المسنود بفكر مستنير ورؤية استشرافية للقادم من الأحداث، يجعل المرء منحازا بالضرورة للغد المتسم بالتغيير وإدخال الحركية والدينامية على مسارات الشعوب الحالمة بالتحرر والانعتاق وتأسيس الأرضية الصلبة التي تبنى عليها اركان دولة الحكم الديمقراطي والعدل الاجتماعي والتنوير الفكري والثقافي المناهض للظلام نهجا ونسقا ورؤيا.. ما تنتظره الجموع الغفيرة من مكافحي الطبقة العاملة بالفكر والساعد في كل اقاليم العالم، هو الذهاب بالمشروع المدافع بلا هوادة عن الدولة العادلة إلى الأمام بعيدا عن التسرع والشعبوية وحرق المراحل مع الاستفادة من كل تجارب التحرر الوطني التي خاضتها الشعوب الخارجة رغم كل التضحيات الجسام من نير الاستعمار والاستغلال.
لا سبيل لإحداث أي تغيير متجذر في مسار التاريخ، دون النهل من قيم المواطنة والفكر الاجتماعي المدافع عن بهاء العدالة ومقاومة التفاوت الطبقي والتمييز الظالم بين الفئات والأجيال والجهات والأعراق والطوائف…هنا وهناك.
الغد، تصنعه العقول المستنيرة المنتجة للفكر التحرري المستقبلي والسواعد المؤمنة بالوطن الحر والإنسانية التقدمية.