شارك د. لبيب قمحاوي في محاضرة أقامها حزب الشراكة والإنقاذ بعنوان “أثر التعديلات الدستورية على بنية النظام السياسي الأردني”.
وتالياً نص الكلمة التي ألقاها د. لبيب قمحاوي في محاضرة أثر التعديلات الدستورية على بنية النظام السياسي الأردني
أيها السيدات والسادة،
1- عندما نتكلم عن نظام سياسي فإننا نتكلم عن مؤسسات دستورية وسياسية فاعلة، وليس مؤسسات هيكلية وإطارات فضفاضة دون محتوى. فالنظام السياسي هو اصطلاح يستعمل عادة للدلالة على وجود نظام سوي متماسك ضمن أطر دستورية فاعلة يدير الاحداث ولا تديره الاحداث.
المؤسسية في إدارة شؤون الدولة هي المؤشر على نضج الدولة وتكامل العمل في مؤسساتها. وهذا الأمر هو ما يؤكد بأن المبادئ الدستورية المتعلقة بالفصل بين السلطات والشفافية وتلازم السلطة بالمسؤولية يجري تطبيقها فعلا.
أيها السيدات والسادة،
2- ما يجري الآن في الأردن وللأردن يتأرجح بشكل متزايد بين أمل ضائع في الإصلاح الحقيقي وواقع يتفاقم في سوئه والى الحد الذي قد يرغم البعض أما على الابتعاد قهرا أو الانخراط أملا حتى دون توفر قناعة بمخرجات مثل ذلك الانخراط.
الأمل واليأس هما مفتاحان لكيفية التعامل مع ما يجري الآن. ولكن المؤشرات تشير بشكل متزايد إلى عزوف الدولة وتهيبها وخشيتها من الإصلاح الحقيقي
أكثر من تهيب الشعب وعزوفه. وحتى في تبريرها للتعديلات الدستورية الأخيرة، أبدت الدولة خشيتها من احتمال فوز، مثلا، حزبا إسلاميا أو يساريا في الانتخابات وتوليه مسؤولية تشكيل الحكومة النيابية وتم استعمال ذلك الاحتمال كسبب لتجريد السلطة التنفيذية، أي الحكومة، سلفا ومقدما من العديد من صلاحياتها، مما يعكس شعورا خفيا بالقلق وعدم الارتياح لدى الدولة العميقة من إمكانية إحداث أي تغيير خارج نطاق ما تريده الدولة العميقة وما اعتادت عليه. أمر عجيب وكأن النظام يريد إصلاحا بلا إصلاح. ومن هنا جاءت التعديلات الدستورية كمؤشر على عدم ثقة النظام الأردني نفسه بمخرجات عملية الإصلاح السياسي المحتملة مما حفّز النظام على تبني مجموعة من التعديلات الدستورية التي تفرغ عملية الإصلاح السياسي تلك من أي مضمون حقيقي فاعل فيما لو حصلت وأخذت مداها الحقيقي، وتجعلها بالتالي عملية إصلاح شكلية بلا أي محتوى.
معادلة الإصلاح كما طرحها النظام هي تعديلات دستورية حقيقية تترافق مع إصلاح سياسي شكلي يتم التذرع به والتخوف من مخرجاته ونتائجه سلفا وكأنه حقيقة قائمة. التعديلات الدستورية لا تهدف في حقيقتها إلى وضع ضوابط على ما يمكن أن تخرج به أي عملية إصلاح سياسي فقط، ولكنها تهدف في الواقع إلى تغيير بنيوي في تركيبة النظام السياسي الأردني وقواعده الدستورية وبشكل يفرغ الدستور الأردني حقيقة من مضامينه الفعلية واهمها الفصل بين السلطات والولاية العامة الدستورية لكل سلطة على حده. إن سلب المؤسسات الدستورية ولايتها ووضعها بيد شخص واحد لا يمكن سؤاله أو محاسبته هو في الواقع تقزيما للدستور نفسه.
أيها السيدات والسادة،
3- عنوان هذه المحاضرة “أثر التعديلات الدستورية على بنية النظام السياسي الأردني” يفترض أن هنالك نظاما سياسيا فاعلا ومتماسكا يدير شؤون الأردن طبقا لأحكام الدستور، وهو افتراض غير دقيق.
4- فطبقا للدستور، نظام الحكم في الأردن، أي النظام السياسي، هو نظام نيابي ملكي. هكذا كانت الأمور منذ عام 1952 عند صياغة الدستور. ولكن منذ إقالة حكومة النابلسي عام 1957، ابتدأت الأمور في الانحدار تدريجيا وعمليا مبتعدة عن الدستور في تحديد هوية وطبيعة النظام السياسي الأردني. هذا الانحدار ابتدأ بطيئا وعن استحياء على الرغم مما مر به الأردن من مطباّت وعواصف سياسية، بما في ذلك حرب عام 1967 وما تلاها ونتج عنها وصولا إلى معاهدة وادي عربة.
5- ابتدأ هذا المسار التدريجي بالتسارع خلال العقدين الأخيرين واتخذ مسارا جديدا تميز بالانحدار المتزايد في تسارعه وعلنيته وشموليته إلى الحد الذي جعل من التجاوزات على الدستور وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، وانتهاك قدسية الولاية العامة لمؤسسات الدولة الدستورية، أمرا عاديا وطبيعيا، وتم العمل على تجيير تلك السلطات إلى شخص الملك منفردا يقوم على تنفيذها إما بواسطة الديوان الملكي وهو المرشح لأن يصبح البديل الحقيقي والفاعل للحكومة دون أن يخضع لإشراف ومحاسبة مجلس النواب ويكون رئيس الديوان الملكي بذلك أقوى وأهم من رئيس الحكومة، أو مباشرة بواسطة الأجهزة الأمنية أو تحت إشرافها.
6- المرحلة الأخيرة التي نعيشها الآن تهدف إلى تقنين تلك التجاوزات على الدستور ودسترتها بمعنى أن يتم تطويع الدستور من خلال إقرار تعديلات دستورية عليه كما جرى مؤخرا وبشكل يجعل من تلك التجاوزات أمرا دستوريا وليس مخالفة دستورية.
7- التعديلات الدستورية الأخيرة، أيها السيدات والسادة، لا تهدف فقط إلى دسترة وقوننة التجاوزات، ولكن الأهم والأخطر أنها خالفت روح الدستور وأدت عمليا إلى تغيير بنية النظام السياسي الأردني وتحويله من نيابي ملكي إلى رئاسي ملكي مما يعني عمليا نقل كافة الصلاحيات والسلطات بما في ذلك الولاية العامة للحكومة إلى شخص الملك منفردا.
8- تزداد خطورة العبث بالدستور وتغيير البنية الدستورية للنظام السياسي في ظل الأجواء الأمنية السائدة والتي تسمح بهيمنة الأجهزة الأمنية بطريقة أو بأخرى على كيفية تأسيس الأحزاب، وكيفية ممارسة العملية الانتخابية من ترشيح وانتخاب، مما يسمح بالنتيجة بالسيطرة غير المباشرة على السلطة التشريعية ممثلة بمجلس النواب المنتخب ومجلس الأعيان المعين بعد أن تم ابتلاع الولاية العامة للسلطة التنفيذية (الحكومة).
أيها السيدات والسادة،
9- ما بين السطور قد يكون أكثر أهمية وخطورة مما هو واضح في النصوص. وقد يكون ما ورد في المادة 122 مثلا من التعديلات الدستورية الأخيرة هو الأهم والأخطر كونه ينص على إنشاء ” مجلس الأمن القومي ” والذي يشكّل من قبل الملك منفردا ويجتمع بدعوة منه وتكون قراراته المتعلقة بالأمن والدفاع والسياسة الخارجية ” واجبة التنفيذ حال مصادقة الملك عليها “. هذا هو النص كما ورد، أما ما يكمن في ثنايا النص وبين السطور فهو كما يلي: –
أ – لا يوجد تعريف أو تحديد لمفاهيم الأمن أو الدفاع أو السياسة الخارجية، مما يعني أن تفسيرها قد يضيق أو يتسع حسب الحاجة وحسب رغبة القائمين على هذا المجلس.
ب – يشكل هذا التعديل مزيدا من الانتقاص للولاية العامة للحكومة كون القرارات المتعلقة بالأمن أو بالدفاع أو السياسة الخارجية قد تأخذ بمعزل عن الحكومة وحتى دون إعلامها أو استشارتها أو موافقتها.
ج – هذا التعديل يشكل انتقاصا لولاية مجلس النواب ودوره الدستوري الرقابي والتشريعي حيث ينص التعديل على ما يلي ” تكون قرارات المجلس واجبة التنفيذ حال مصادقة الملك عليها “. وهذا قد يشمل تحت ستار الأمن أو الدفاع معاهدات تتعلق بالقواعد العسكرية أو اتفاقات أمنية أو سياسية أو اقتصادية تتعلق بالتسوية في فلسطين مثلا علما أن الدستور ينص في مواد أخرى على وجوب تصديق مجلس الأمة على أية معاهدة مما يشكل تناقضا في النصوص الدستورية وهكذا، وقس على ذلك.
10- أمّا ما يتعلق بتعديل الفقرة (2) من المادة (40) من الدستور والتي تسمح للملك بإنهاء خدمات رئيس المجلس القضائي فإن هذا يشكل انتقاصا من استقلالية المجلس القضائي ورئيسه وبالتالي استقلال القضاء ويسمح بممارسة الضغوط على المجلس القضائي مما يتعارض وروح الدستور ومبدأ الفصل بين السلطات والمادة 12 من قانون استقلال المجلس القضائي.
11- ما نحن بصدده الآن هو محاولات ترقيعية واضحة لأخطاء وتجاوزات وممارسات تتعارض وأحكام الدستور، والتي تراكمت مع الوقت وأصبحت إرثا ثقيلا يجري العمل على تخفيف آثاره أو التخلص منها أو إضفاء صفة من الشرعية الدستورية أو القانونية عليها. وهذا يعني أن ما نحن بصدده لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة الاستفادة من دروس وأخطاء الماضي أو العمل على تطوير ما نحن فيه إلى الأحسن والأفضل، بقدر ما يعني المحافظة على نفس النهج والمسار والعمل على تغليفهما من خلال إجراءات شكلية وبما يوحي وكأن هنالك تغييرا وأن هنالك مسارا ونهجا جديدين.
12- وأخيرا، يحاول الكثيرون من “سحيجة” النظام البحث عن أعذار ومعللات لتبرير الانتهاكات للدستور ومن ثم أهمية ولزوم التعديلات الدستورية. في الواقع، قد يكون هناك بعض الأسباب الخفية وراء تركيز معظم السلطات المهمة بيد شخص واحد. وقد يكون في طبيعة ومستوى التسويات الإقليمية المقبلة خصوصا تلك المتعلقة بإسرائيل وتسوية القضية الفلسطينية ما يستدعي لزوم أن يكون القرار بيد شخص واحد دون أن يتطلب ذلك تدخلا أو موافقة دستورية من أحد، بل اعتمادا شكليا للقرار دون مناقشة. وبذلك تصبح القرارات المصيرية مرتبطة بشخص واحد وخارج نطاق الضوابط الدستورية.
أن الدخول في المئوية الثانية للدولة الأردنية لا يتطلب الاكتفاء بتصحيح بعض الأخطاء أو تحويلها من أخطاء إلى قواعد دستورية جديدة بحكم التعديلات الأخيرة، بقدر ما يتطلب الأمر إعادة بناء الدولة ونظامها السياسي على أسس جديدة وحديثة تسعى إلى إدخال الدولة الأردنية إلى القرن الحادي والعشرون بتحدياته ومثله التي تحترم حقوق الإنسان والمواطن ضمن إطار متكامل من النزاهة والشفافية وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات بشكل واضح لا لبس فيه ولا التباس. وهذا المسعى يتطلب إعادة بناء النظام السياسي الأردني بشكل ديمقراطي ودستوري باعتباره الأداة لنقل الدولة الأردنية إلى حداثة القرن الجديد بإنجازاته وتحدياته وأهدافه ومثله.