للشتات ميزة وحيدة واحدة، كنا نسكن مخيم اليرموك، وفي مكتب الجبهة فيه نُسجت العلاقات والصداقات، سنين طويلة من الاغتراب عن أهل الأم والأب لم أعرف خالة ولا عمة، ولم أعرف أن في عالم موازي علاقات مختلفة عن تلك التي تسمى الرفاقية.
لم أعرف بنات خالاتي ولكني عرفت الأخوّة التي تُبنى بعد موعد اجتماع حزبي نتجمع فيه نحن الأطفال في بيت إحداهن، بينما أمي ورفيقاتها ملتزمات في اجتماعهن الحزبي، يكون معنا مثلا أحد الرفاق يخفف عنا ساعات قطع الكهرباء، ويبعد عنا أي خطر ممكن أن يكون.
ليس تعبيرا مجازيا مبالغ فيه إن سمعت من أكثر من عشر رفيقات أنني ابنتهن، وتشاركت الأخوة مع أبنائهن، لم تكن أمي مقصرة، ولكن كانت هي ورفيقاتها نوع مختلف من العلاقة الاختيارية، تفرغت إحداهن عند انشغال الأخريات وحضنت أبناء الجميع..
سأبوح لكم بسر كلما التقيت الرفيقة ليلى خالد أذاعته بفخر وحنين لأيام مضت.. “اسألي إمك ليش أخدت نقد سلبي..؟ وكيف ألزمنا التنظيم بأن تنتهي الرفيقات أعمالهن الساعة الثامنة مساءً..!”
وأعيد رغبتي بالاستفسار عن السبب كما لو أنني أسمعها لأول مرة…
“احكيلي ليش…”
“كنا مع بعض الرفيقات عنا اجتماع، اجى ابوكِ قطع علينا الاجتماع.. لو سمحتي رفيقة ضروري تيجي معي…
وعندما ذهبت معه وجدتكم بالبيت أنتِ وأخوكِ نايمين على ضوء الشمعة التي تذوب وينتهي عمرها الافتراضي ولا تنتهي ساعات اجتماعنا… خايف عليكم تنحرقوا…
وتتابع الحديث، لما شفت هالمنظر انجنيت.. هالقد احنا ناسيين حالنا وأمك اخدت نقد سلبي واجتمعت بالرفاق وقررت أن يُراعى وضع الرفيقات جميعهم في الحزب..”
لم تكن أمي مهملة، بل كانت متفانية في نضالها من أجل تحقيق الفكرة، ولم تنظر الرفيقة ليلى لنا سوى بعين الأم الخائفة على اطفالها.. ولم أكن أقوى إلا على مناداتها بخالتي وشعور الأمومة يسكنني كما يشعر به بدر وبشار أبناء رحمها..
يوم أمس وفي مراسم تشييع الرفيقة وداد قمري، وجدت ليلى تبكي رفيقة دربها وهي لم تبكي او تُظهر دموعها على الأقل يوم وفاة رفيقها الحكيم! نعم بكت الصديقة والأخت ورفيقة الدرب وداد..
فما كان منك يا وداد …؟
وداد قمري التي لم تنجب، وهي من فقدت جنينها في سجون النظام السعودي، لم تكن أقل عاطفة من الأخريات، منحتنا حبها أو ربما نحن من منحنها فرصة أمومتها.. انتقلت معنا الى الاردن بعد الإنفراجة الديمقراطية، أذكر أنها كانت تهاتفني: “تعالي الك أغراض (ملابس وأحذية) عندي بيجوا عليكِ.. “
كلما دخلت بيتها قالت: “البيت بيتك قومي اعمليلنا قهوة…”
وكلما تحدثنا نظرت لي تلك النظرة الفخورة وقالت لماما: “والله وكبروا الصغار يا انعام ..”
كان لي شرف استقبال الرفيقة وداد في بيتي أكثر من مرة.. هذه احداهن..
كيف للإنسان أن يتجاوز أحلامه البشرية ويتكبر على غرائزه الفطرية، وأن يهب حياته للقضية ويفنى ذاته بصمت ويمضي..
كيف لنا أن نكون في وداع يليق أمام حجم الفقد الكبير…؟
كان لي شرف عظيم أن أكرّم الرفيقة والام وداد قمري في احتفالية متواضعة في آذار المرأة والأرض والأم من عام 2016، لم أكرمها بل أكرمتني بعظمتها وتواضعها واصرارها على العمل بصمت ..
هل من وداع يليق…!
في حضرة العظماء دائما ما نقف عاجزين، ليس تعبيرا لغويا سائدا، هو حق.. يحملون قضيتنا، يسكنون مسام الذاكرة، يفعلون فعلهم النضاليين بصمت، ويمضون..
كم كُنت حزينة في فقدانك خالتو وداد، لن تنتهي هذه المسيرة بتابوت، ولن تقفل روايات غسان.. ولن تكونِ فصلاً أخيراً .. بل حلم مستمر نعدك أن نحققه، ترافقنا روحك وتحلق معنا في سماء القدس محرره
مع السلامة يا مسك فايح .. يا أمي