هل بامكان الفتى أن ينام بعيدا عن نيران العاصفة و لا أحد يمنحه الهتاف الأنيق؟!.. لست وحيدا أعبر شوارع العتمة في هذا الطقس الشتوي البارد. خطاي أجنحة من الياسمين و يداي طيور من الحلم تتجه صوب سماوات الروح. هكذا و في عزلة تامة عن ضجيج المدن و صخب المعارك المندلعة هنا وهناك، يتصفح الرجل الهارب من سراديب الهذيان، ورقات من كتاب المنفى، و لا ينسى أن يتذكر صور الأحبة و الرفاق الذين صاروا سرابا.
كيف تسير خطاه باتجاه زهرات المعركة و لم تخنه ذاكرة الزمن الدامي. كم من الصبر و المعاناة و المكابدة يلزمه ليصل إلى حدائق النور و تنطلق به عربات الانتباه إلى فضاءات الدهشة. هاهي ذي الشوارع مقفرة و المدن صامتة و الأزقة تبحث عن مشهد لعناق استثنائي. ليس الرحيل سوى عنوانا لانفتاح الكلمات الهاربة من أنياب الصقيع. هل بإمكان الرؤى أن تجعل الكائن البشري الخائف من سطوة اللحظة التاريخية الراهنة أن يقول للجلادين الباحثين عن أصوات الأنين :نحن هنا كأبهى ما يكون الانحناء لرائحة الوردة و مياه الينابيع. أجل و بمنتهى الجرأة و المشاكسة، يكتب الفتى أحلام الأجداد المهدورة ، ليس خوفا من شاحنات النسيان وسماسرة الحروب، إنما وضعا للنقاط على الحروف، لعل اللغة تبعا لذلك، تصير أكثر إشراقا و أقرب لأصوات الفجر. أجل و بمنتهى اللطف و اللياقة، يطلب الفتى من شحاذي المدن العتيقة و الأحياء الشعبية، أن يصيروا ملوك العصور القادمة!
هذا البحر مدرسة للرحيل
و الحبر طريق طويل لاندلاع الذهول..
هاهو ذا ماء النهريصب في قيعان الدجى
و الأزقة الخلفية تبحث عن العشاق القدامى
بالأمس صباحا أحدهم قال لي: كيف تسير و حيدا على رمال الاغتراب و لا أحد من الأهالي الطيبين البسطاء، يضع على كتفيك زهرات الانتماء”لوردة السراب” هكذا و بمحض إرادته يمضي سريعا إلى نوافذ الذهول، ربما يباغته صديق قديم بكتاب” مشاغب “.
أسئلة المرحلة لم تعد تعني أي شيئ في سوق السماسرة المتاجرين بقيم الحداثة. أسئلة المرحلة هي الضوء المخيف للحصون التي لا بد أن تتحطم لتزداد ذهولا و صمتا و حيادا. أما من يتحدث عن انطونيو قرامشي وتنظيراته عن”المثقف العضوي” فليذهب إلى جحيم المكان و عزلة الزمان! ليس أشد إرباكا للذاكرة و إمعانا في ترحيل المعنى عن جدران اللغة سوى كتابة فصول مطولة من “أصوات الأنين” هنا و هناك و كأن الأنين لا معنى له وسط هذا الضجيج المتعالي في المدن و الأزقة.
ليس الخوف من ديمومة الحلم و تنامي فكرة التمرد في جسد الضحية.. الكائن المغترب والمربك للسماسرة و المتاجرين ببهاء اللغة، إنما المربك حقا هو أن يتمادى الجسد القابع تحت ضربات الجلاد في نفي وجود الجلاد ككائن و سيرورة، و هنا تصير أجساد” أصوات الأنين ” هي الحاملة لأوجاع المكان و الزمان، و تصير ضربات الجلاد هي الجسر الذي تعبره عربات الانتباه نحو مدن الدهشة و قرى البهاء الخارق.
صامتا أمشي في الشوارع و الأزقة و الحارات المخيفة ولا أتذكر سوى وجهك المنير و عينيك السوداوين الواسعتين المحببتين إلى قلبي و روحي..صوتك الدافئ الخارج من قيعان المعاناة و المكابدة هو الذي أخرجني من دائرة الفراغ القاتل و اليأس الذي كاد يأخذني إلى دوائر الاغتراب. دائما يتابعني صوتك كظلي..
كيف سيكون بإمكاني أن أنسى ضحكاتك السابحة في مياه السخرية من مفارقات هذا العالم الغريب العجيب..كيف سيكون بإمكاني أن أنسى إن سافرت غدا أو بعد غد إيمانك العميق بالحرية و انفلات صوت الكائن البشري من أنياب الحيف و الاغتراب والارتباك. وحده عنادك الرشيق الذي يأخذني إلى نوافذ الحلم. فأنت تعاندنين الرداءة و تشاكسين مثلي تماما أعداء البهاء. كم كان جسدي المتعب يحتاج إلى صوتك الهادئ الدافئ الحامل بين طياته رحيل اللغة إلى جسد البهاء و انتصار الوردة على “ثقافة” السيف و الدماء.
كم كنت محتاجا إلى نظرة واحدة من عينيك الواسعتين الجميلتين لتأخذني خطاي إلى مدن السكينة و الصمت العميق و الهتافات الرشيقة من أجل الوصول إلى نوافذ الياسمين. كم كنت محتاجا إلى عناق طويل لأزداد إيمانا بأن الحياة جديرة بأن تعاش طالما أن هناك أحرار في هذا العالم الغارق في الغرابة. هل هي صدف الحياة جمعتنا أم إرادة الله؟ لست أدري، كل ما فهمته بعد كل الخيبات والطعنات التي انهالت على جسدي المتعب هو أنك الأنثى الاستثنائية التي لا تتكرر هنا و هناك كرقم في طابور كبير و طويل من البشر.
أنت النور المتدفق من شرايين الحلم و الينابيع الطالعة من أنهار الرؤى. لا أطلب سوى أن تأخذ جسدي هذا إلى ملكوت الدهشة والنبع الفريد، و أن نرحل سويا إلى مدن الشرق من أجل ترسيخ ثقافة الانحناء لرائحة الزهرة.
أنت البوصلة وسط المتاهة، و الينبوع في المدن و القرى المقفرة.
- فصل من كتاب / مخطوط تحت عنوان :
النهر و الينابيع