لم تنفصل الحركة الفنية المعاصرة عن قضايا النضال البشري ضد قوى الاغتصاب والظلم، ولم يعد الفنان يرسم لمجرد المتعة البصرية، بل صار يرسم صورة أخرى لمستقبل آخر للبشرية، لذلك أصبح لديه مهمة تحريضية فصارت اللوحة عنده تعكس موقفه السياسي وهذا الموقف نابع من انتباه الفنان العالمي إلى أهم قضايا هذا العالم، القضية الفلسطينية.
والفضل في ذلك يعود دون أدنى شك لعالمية الثورة الفلسطينية، ولمقدرة الكادر الثقافي لهذه الثورة بأن يطرح قضيته بكل قوة على العالم كله. وقد برز الفعل التشكيلي للثورة الفلسطينية عبر أوجه متعددة كان أهمها ارتكاز الجانب الإعلامي الفلسطيني على لغة الملصق.
لقد دلت الدراسات عن الملصق السياسي! انه ما من ثورة معاصرة استطاعت أن تقدم ملصقاً سياسياً متطوراً أثر على تطور هذا الفن ودفعه إلى الأمام كثيراً مثل الثورة الفلسطينية. فمنذ نهاية عام 1968 حتى منتصف تسعينات القرن الماضي رسم من اجل القضية الفلسطينية أو بسببها 70 % من ملصقات العالم، استقطبت القضية الفلسطينية وحدها أعمال أكثر من خمسين بالمائة من فناني الملصق المعروفين عالمياً.
إذاً ظاهرة الملصق التشكيلي وأثر القضية عليه عالمياً أصبحت إحدى العلامات المميزة لتعاطف الحركة التشكيلية العالمية مع فلسطين بالذات، فلا غرابة أن نرى أن موضوع الانتفاضة والهيمنة على القدس بالذات يأخذ مداه الأوسع في ضمير الحركة التشكيلية العالمية.
ويعد الفنان السويسري ” مارك رودين ” الذي اختار اسم ” جهاد منصور ” ليوقّع به ملصقاته أحد الفنانين الذين استقطبتهم القضية الفلسطينية وتعد تجربته واحدة من التجارب العالمية الهامة التي ساهمت في تطوير وبناء خصوصية لفن الملصق الفلسطيني، ومن المؤكد أن أهمية وفاعلية هذه التجربة الفنية ترجع إلى عدة أسباب، أهمها أن الفنان ” رودين ” يتمتع بخلفية فنية وثقافية وكذلك سياسية متينة، وهذا ما تفصح عنه لغته التشكيلية والتعبيرية.
كما أنه التحق في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في نهاية الستينات من القرن الماضي، وخرج من وطنه سويسرا عام 1979 وعاش في المخيمات الفلسطينية في لبنان، وبعد الاجتياح الصهيوني لمدينة بيروت عام 1982 غادرها رودين إلى مخيم اليرموك في سوريا، وفي عام 1991 غادر دمشق إلى مسقط رأسه.
في مخيم اليرموك عاش هاجس البحث والتجريب في سبيل الوصول إلى شخصية متميزة في ارتباطها بالأحداث الفلسطينية والتعبير عنها برؤية متطورة ليست بمعزل عن المسألة الإنسانية، ومثل هذه الرؤية إن دلت على شيء فإنما تدلنا على تلك الرغبة العارمة في مخاطبة الناس في أي مكان في هذا العالم، أو لنقل إيصال القضية الفلسطينية العادلة إلى الناس على صعيد عربي وعالمي، وهذا ما يتطابق مع التطور الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، حيث تقف في مقدمة قضايانا المعاصرة، وتلقى دعم وتأييد العديد من دول العالم والعديد من الفنانين العالميين ومن بينهم الفنان السويسري ” رودين ” الذي ساهم في إفراز حركة تضامن عالمية مع الشعب الفلسطيني، كما أثّرت القضية الفلسطينية على عدة فنانين عالميين ساهموا في تقديمها من خلال الملصق الذي أقيم له في نهاية السبعينات معرضا في بغداد وبيروت.
فماذا عن تجربته في الملصق كترجمة إبداعية؟ كفعل تشكيلي ثوري؟
تمثل الأحداث التي مرت بها القضية الفلسطينية من أيام النكبة إلى زمن المجازر مرورا بالانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية محور موضوعات ” مارك رودين ” فهو كغيره من الفنانين الفلسطينيين والعالميين الذين رسموا لفلسطين؛ ينطلق من الحدث الفلسطيني كدافع للتعبير.
وقد رسم للانتفاضة الأولى والثانية ملصقات بمنتهى البساطة والوضوح وبلغة الخط واللون وضمنها رموز متعارف عليها، مثل: “الكوفية، والبندقية، والعلم الفلسطيني، وشارة النصر، والقبضة، والوردة، والمقاتل والمرأة والطفل، والبرتقال، والمساجد، والكنائس.. إلخ “.
هذه الرموز ظهرت بمعزل أحيانا عن العبارات المصاحبة للرسم، وهذه الميزة إن دلت على شيء، فإنما تدل على وعي الفنان بضرورة نشر مضامينه على أوسع نطاق ومخاطبة الناس في أي مكان من هذا العالم. سيما أن الملصق السياسي رفيقاً للنضال الفلسطيني، وأداة فاعلة.. يدعو إلى تمجيد البطولة، وإلى تعرية وفضح ممارسات العدو الفاشية والكشف عن جرائمه وسياساته العنصرية، والتشهير به أمام شعوب العالم على أوسع نطاق.
لقد وضعت الانتفاضة الفلسطينية المهام التي يجب أن يقوم بها الملصق الفلسطيني، الأمر الذي يدعونا أن نتناول نتاجات الفنان السويسري ” مارك رودين ” المكرسة للانتفاضة والتي قادت إلى ملصقات مختزلة، وجذابة. حيث ركز في معظم ملصقاته على اليد والحجر والكوفية.. كرموز قادرة على التعبير عن أشكال النضال الفلسطيني المتنوعة، وهذا ما يتضح في جميع ملصقاته:
ففي ملصق ” بدمنا نحمي القدس ” والذي يتميز بتعبيرية كبيرة، وبتكوين مفتوح من الأسفل والأعلى تتحدد بخطوط عريضة عناصر مبسطة لمدينة القدس، تمتد عبرها يد تحمل كوفية فلسطينية ملطخة بالدماء ترفرف في فضاء القدس الواسع كمجاز رمزي لتضحيات الشعب الفلسطيني من أجل القدس والتي تحتل الجزء الأسفل من الملصق.
لقد كان التعبير عن قوة إرادة الشعب الفلسطيني في مواصلة النضال البطولي مهمة ملحة أمام الملصق الفلسطيني، لذلك فقد عادت بسرعة إلى ملصق الانتفاضة صورة الحجر والشهداء، ففي ملصق” حاتم السيسي شهيد الانتفاضة الأول: على طريق الحرية والاستقلال ” ينطلق الفنان ” رودين ” من الأحداث الأولى للانتفاضة الفلسطينية والتي كان من نتائجها سقوط أول شهيد، حيث رسم مقاتل يحمل بيده حجر تتقدمه صورة شخصية للشهيد السيسي، وفي أعلى الملصق يمتد شريط برتقالي اللون يرمز إلى الحرية والانتصار. والملصق الذي نفذ باللون (الأسود والأبيض والبرتقالي) يتميز من ناحية التكوين بالبساطة والاختزال في العناصر المستخدمة، وهي قادرة على التأثير البصري والعاطفي على المشاهد.
أما الملصق الثاني الذي عبر فيه عن يوم الشهيد ” الوطن أو الشهادة.. سننتصر ” فقد احتل المقاتل الشهيد معظم مساحة الملصق حيث غطى العلم الفلسطيني ملامح الوجه باستثناء اليد التي تحمل الحجر كتعبير عن مضمون وصيته لرفاقه بمتابعة المسيرة حتى تحرير الوطن.
ويرسم الفنان رودين في ملصق ثالث بورتريه لمقاتل شهيد يفترش الأرض ويمسك بقبضة يده على نقيفه وقد أزهرت بعض الوريقات الخضراء، ولا تكشف الكوفية عن ملامحه، وفي أعلى الملصق رسم الفنان أدوات الجريمة والمتمثلة بأقدام جنود العدو.
وفي ملصق آخر لنفس المناسبة وعلى خلفية زرقاء، وديناميكية الحركة التي تحققها الخطوط الحرة اللينة للأيدي المرفوعة والمندفعة إلى الأمام رسم الفنان رودين الشهيد محمولا على أكف الأيدي، إن حركات الأيدي التي تحمل الشهيد، تردد إيقاع مجموعة من أيادِ أخرى رسمها الفنان في المقدمة، واحدة تحمل عصا وأخرى تقذف بحجر نحو العدو، كتعبير عن مضمون وصية الشهيد لرفاقه بمتابعة مسيرته النضالية.
إن دراسة ملصقات الفنان رودين توضح مدى سعيه إلى تطوير ملصقاته في الشكل والمضمون كما سعى إلى الاختزال بالإضافة إلى أنه عمل على توظّيف يد الإنسان بكفاءة في ملصقاته، وذلك بحكم قدرتها التعبيرية على تقديم تنوع في الدلالات، في أوضاعها المختلفة التي تمكن من التعبير عن العديد من الموضوعات. وهذا ما يتضح في العديد من الملصقات، مثال:
ملصق ” الحجر ينتصر للدم الفلسطيني ” حيث رسم يد تخرج من بركة دم، وتحمل حجراً استعداداً لقذفه تجاه العدو الممثل في شكل جندي صغير الحجم بدت منه فقط الأقدام في أعلى الملصق وظلاً يمتد بسلاح على بركة الدم التي صبغت بالأحمر كامل مساحة الملصق.
وفي ملصق اليوم العالمي للطفل ” المستقبل لأطفال الحجارة ” والمرسوم على خلفية خضراء موشاة بالأسود يبرز في يمين الملصق مقطع جانبي ضيق من جانب لجسم امرأة بزيها الشعبي المطرز وهي تناول طفلتها الملتفحة بالكوفية الفلسطينية حجراً لتقذفه على العدو، وكأنها تعطيها الدرس الأول في المقاومة.
أما ملصق “المجد كل المجد لانتفاضة الشعب الباسل ” المنفذ على خلفية سوداء فهو عبارة عن تعميم واسع لنضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، حيث يتحد فيه بوثوق الرسم مع النص، وتتمثل الفكرة الفنية بمقاتل يحاول من خلال يده العملاقة قذف حجر نحو الهدف.
وهذا ينسحب أيضاً على الملصقات التالية: ” إنهم يقتحمون السماء ” و ” الصمود والمواجهة ” و ” عامان نحو الحرية والاستقلال “.
كما كانت موضوعات المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال حاضرة في ملصقات الفنان ” رودين ” وبحكم أهميتها أنجز الفنان ” رودين ” العديد من الملصقات التي تعكس معاناتهم وقوة الإرادة والتحدي لأحكام العدو القاسية، وإذا كانت الأيدي في معظم ملصقاته تلعب دوراً كبيراً في أداء حلول عديدة متفردة كأن تتشقق الجدران لتصل شباك الزنزانة وقضبان نافذتها المحطمة والملتوية للخارج أو الكوفية المربوطة في احد القضبان على شكل خارطة فلسطين كرمز للحرية المرتقبة للأسير والوطن بكامله، وفي أثناء الانتفاضة الفلسطينية كشف الفنان ” رودين ” في ملصقه ” الحرية لرواد فجر الاستقلال ” عن قدراته الفنية والتقنية عندما رسم ملصقا صريحا ومؤثرا بصرياً بالأزرق والأبيض والأسود، حيث يجسد الفنان ” رودين ” الفكرة من خلال مشهد يتألف من صورة من بورتريه لسجين يلبس الكوفية وعينه نحو نافذة السجن التي تتألف من شباك وقضبان وشبك حديدي، وحجر يخترق الشبك ويكسر قضبان النافذة، ويكشف الحجر في هذا الملصق عن مغزى ضياء الحرية المنشودة.
إن بحث الفنان ” رودين ” في فترة الانتفاضة قاد إلى حلول تجريدية مختزلة وجذابة. كما يتضح في ملصق ” عمالنا درع الثورة والانتفاضة ” وهو مكرس لمناسبة يوم العمال العالمي، ويتألف الملصق من صخرة كبيرة ” صخرة سيزيف ” بحيث تملأ منتصف مساحة الملصق، وخلف الصخرة مجموعة من العمال بأدواتهم المختلفة يعملون على دحرجتها نحو دبابة صهيونية تقبع في الزاوية اليمنى من الملصق، وجاء الحل الفني من خلال ثلاثة ألوان هي الأسود والحمر والأبيض.. وقد امتاز الملصق كما هي ملصقاته السابقة ببساطة الفكرة وقوة بلاغتها والتي عكست أهداف الانتفاضة في نضالها من اجل الحرية والسلام.
كما ركز الفنان ” رودين ” على العمال والفلاحين والأطفال عمل على إبراز دور المرأة الاجتماعي والسياسي في الانتفاضة، والتفاتة هذا الفنان الملحوظ لتجسيد نماذج المرأة في المناسبات التذكارية.. لا يشير فقط إلى الرغبة في تكريس تقاليد إنسانية لتكريم المرأة، ولكن إلى الاعتراف بدورها النضالي. فمثلا في ملصق ” المجد لنساء الانتفاضة ” المكرس ليوم المرأة العالمي، يعتبر نموذج المرأة كمجاز تشكيلي للشعب الفلسطيني المنتفض ضد الاحتلال، حيث رسم الفنان على خلفية برتقالية امرأة فلسطينية بثوبها الشعبي المطرز وهي ذات ملامح صارمة تحمل بيدها اليمنى حجراً مشهراً في وجه الجنود الصهاينة.
أخيراً يعود الفضل في تعميم الحلول الفنية العرضية في الملصق الفلسطيني للفنان السويسري ” مارك رودين ” كما تعتبر ملصقاته من النتاجات الهامة التي ساهمت في تطوير الملصق الفلسطيني وبعودته إلى وطنه في منتصف تسعينات القرن الماضي خسرت القضية الفلسطينية فناناً كان له حضوره المهم على صعيد الملصق وعلى صعيد استقطاب الفنانين العالميين لصالح القضية الفلسطينية.