رغم الهستيريا الصاخبة التي تفتعلها واشنطن عبر العالم، إلا أن لا أحد في أوروبا يتخيل بأن أوكرانيا تعيش الآن خطر الحرب، فالحرب لها مقدماتها وأسبابها.. وما نراه ونسمعه، ليس سوى سجال ساخن بين أمريكا وروسيا!!
في الجانب الروسي هناك أمة صاعدة وعائدة بقوة إلى الساحة الدولية، وتعتبر نفسها وريثا شرعيًا للسوفييت، بعد أن رأينا كيف سقطت الإمبراطورية السوفيتية دون إجراء أي نقاشات جادة حول كيفية تنظيم المرحلة التالية، وترسيم الحدود، والتبعات اللاحقة، وهذه واقعة سابقة في التاريخ الحديث، حتى أن غورباتشوف قال حينها: “بالنسبة للقرم، ممكن أن تستمر على وضعها لأن روسيا وأوكرانيا أصدقاء”!!
الآن، الحالة متوترة للغاية، وروسيا الجديدة بزعامة بوتين تحاول إعادة ترتيب وحل ملفاتها المُضيَّعة من إرث الزمن السوفيتي؛ سواء بالقوة أو بالأساليب الدبلوماسية، وقد شاهدنا سابقاً مآلات قضية جورجيا عندما تنمرت قيادتها الاستبدادية، وحاولت السيطرة على نقاط حدودية روسية، والموقف الأمريكي من ذلك، وكيف تشجع واشنطن دائماً أي طرف يعادي أو يعتدي على روسيا.
نحن ندرك بأن حلف وارسو قد تشكل بالأساس لمواجهة تهديدات حلف شمال الأطلسي والذي يتجمع تحت العباءة الأمريكية، وحتى الآن كل التحركات العسكرية في شرق أوروبا يتم توجيهها من واشنطن، مع أن مؤسسة “الأطلسي” كان يجب أن يتم حلّها بعد تفكك المعسكر الشرقي واختفاء حلف وارسو، ومجموعة “الكوميكون” كمجلس للتعاون بين مكونات هذا المعسكر، وبالعكس من ذلك فإن عشر دول من المعسكر الشرقي أصبحت عضوة الآن في الاتحاد الأوروبي وبعضها في الحلف الأطلسي.
الضمانات التي قُدمت لروسيا حول عدم تقدم “الأطلسي” نحو الحدود الروسية، مقابل تعهد روسيا بعدم تدخل جيشها في تلك البلدان، قد تم خرقها من طرف الجانب الأمريكي بشكل كامل وسافر، والمعادلة تقول دائما بأن أمريكا تصنع عملاء وليس شركاء.
ينتقد بعض السياسيون والمفكرون الأوروبيون، حالة تصعيد عسكرة أوروبا، ويرون بأن الولايات المتحدة هي قوة عملاقة في طريقها إلى الأفول والتقهقر، ويشيرون إلى الانسحاب المذل للولايات المتحدة من أفغانستان بعد أن تركت البلاد في حالة من الدمار الشامل، ويقدرون بأن التحرك الأمريكي التوتيري في أكثر من اتجاه، هو محاولة لفرض السيطرة والدور، بينما الداخل الأمريكي غير متوافق حتى الآن على اتجاه الحركة أو الضربة الموجهة والتائهة بين الصين وروسيا، ويحذرون بأن ذلك من شأنه أن يدفع الأطراف المستهدفة من قبل العدوانية الأمريكية، إلى التوحد على الصعد السياسية والاقتصادية وحتى الدفاعية، والمثال الصيني الروسي ليس ببعيد.
رأسمالية الدولة الروسية من جانبها تخلصت من معظم احتياطاتها من الدولار، وعملت على خلق منطقة مالية نقدية خاصة، تعزز من استقلاليتها الاقتصادية والدفاعية أمام الامريكان، وتقلل من قيمة العقوبات الامريكية، وتستثمر جيدا في إمكانياتها، بينما واشنطن، تريد توسيع “الأطلسي” تجاه الحدود الروسية دون أن تمتلك استراتيجية محددة، وهذا غير مقبول للروس بالمطلق، لأنه سيزيد من درجة التوتر والتأزيم، وأزمة صواريخ كوبا ما تزال في الذاكرة، كما هي عملية تفكيك يوغوسلافيا.
تراكم هذه المشكلات القديمة رسمت حدوداً وأوجدت معايير ثابتة يصعب تجاوزها من قبل الطرفين، ولا يمكن لنشر قوات أطلسية قرب روسيا أن يمر دون حساب.
في الحالة الأوكرانية؛ وبعد أن توالت على كييف عدد من الحكومات الفاسدة وبعضها قريب من الفكر النازي، بما يختزنه ذلك من ذكريات دامية للصراع النازي-السوفيتي.. وصل إلى الحكم الرئيس الحالي، الذي أظهر حماسة خاصة في تطوير الوضع الاقتصادي المنكوب، وتحقيق نجاحات معقولة في استحضار استثمارات أجنبية، لم يعد متحمساً للحرب مثل أسلافه، لأنه يدرك بأن أي حرب تقع ستكون فوق أراضيه، وما يستتبع ذلك من تدمير ما أعيد بناءه. ويتجاهل الإعلام الغربي بالكامل صوت الرئيس الأوكراني الذي يقلل من احتمالات الغزو الروسي، ويدعو إلى التهدئة والحوار، لدرجة أن البعض راح يتهمه بأنه بات يمثل “ألعوبة بيد بوتين”!!
في الإطار العام لا يبدو بأن الأوروبيين أو الأوكرانيين معنيون بالحرب، ولكن الإمبريالية الأمريكية التي باتت تمتلك سطوة كبيرة على أوروبا، تتجاهل مصالح الأوروبيين الإقليمية الحيوية، وتقوم بصب الزيت على النار. حتى عندما ناقشت واشنطن الأمن الأوروبي مع موسكو، لم تدعُ إلى طاولة الحوار أي أوروبي، وعندما رفضت ألمانيا إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، وُضعت تحت ضغط هائل، وما تزال، رغم أن ألمانيا هي أول من سيدفع ثمن انقطاع تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا، وهو الملف العزيز على قلب بايدن والكارتل النفطي الأمريكي، والذي يعمل عليه بشكل حثيث وفاعل!!
من الواضح هنا بأن ملف الغاز والتحكم به، يشكل أحد أهم الركائز لواشنطن في استهدافها لروسيا في الأزمة الحالية، ومن هنا يأتي الإيعاز الأمريكي لكل من قطر التي رضخت لوضع غازها تحت تصرف المخطط الأمريكي، وإلى تركيا عبر تكليفها بنقل الغاز المسروق من “إسرائيل” عبر شرق المتوسط إلى أوروبا، بانتظار تهيئة البنى اللوجستية التي تسمح بإحلال الغاز الأمريكي بالكامل مكان الغاز الروسي، رغم تميزه حاليا بتدني تكاليف نقله عبر الأنابيب، وقربه من مناطق الاستهلاك الأوروبي.
ويتساءل الأوروبيون عن مصالحهم في هذا وهم يقعون في وسط حقل التوتير والتراشق، ويحاطون بأكثر من نقطة حدود مع روسيا -تمتد من أوكرانيا إلى هنغاريا ورومانيا وبولونيا، إلى بحر البلطيق- يمكنها أن تشكل عوامل تصعيد متوالية هم في غنى عنها، ويدركون بأنه ليس هناك من منتصر في مثل هذه الحروب، كما أثبتت زيارة ماكرون إلى فرنسا بأن ليس للاتحاد الأوروبي من قيمة في تحديد مصير هذا الصراع الذي سيقع على أراضيهم، وذاكرتهم الجمعية ما تزال تختزن مآسي حربين عالميتين دفعوا فيها أثمان باهظة من أمنهم ودمائهم ومقدراتهم، فيما يمتلك بوتين طاقة تكتيكية عالية، وخبرات متراكمة في إدارة وحل الازمات، ويعول حاليا على استغلال الأزمة الحالية، لزرع إرهاصات تناقض أوروبي أمريكي تعزز من استقلالية أوروبا عن الهيمنة الأمريكية.
ديدن الرأسمالية العدواني هو نشر الحروب والنهب والدمار في العالم عن طريق الحروب الباردة، والتي يتم تصعيدها عسكريا كلما اقتضت الحاجة، ويتساءل القادة الأوربيون الآن وبعد أن وصلت شرارات الحريق إلى داخل بيتهم، كيف يجنبون القارة العجوز حربا مفتعلة، يدفعون أثمانها بالكامل، بينما “تلملم” الإمبراطورية الأمريكية المتقهقرة، مكاسبها وأرباحها، وإعادة ترميم صورتها الشائهة؟!